تشهد سورية ولا سيما مناطق سيطرة النظام السوري على وجه الخصوص، أزمات معيشية خانقة تفاقمت كثيرا خلال الفترة الأخيرة، وتجلت في ارتفاع حاد بأسعار المواد الأساسية مع ندرتها، بما فيها الوقود، فضلا عن انقطاع التيار الكهربائي، ليصل الأمر إلى المادة الأولى في الاستهلاك اليومي للمواطن السوري، وهي الخبز، حيث زادت ظاهرة الطوابير لشرائه وتحولت إلى مشهد يومي في مجمل المحافظات، وخاصة العاصمة دمشق.
وبينما يتذرع مسؤولو النظام الذين يظهرون يوميا على شاشات المحطات المحلية بوجود العقوبات والحصار الاقتصادي على البلاد، كسبب في هذه الأزمات، عزا رئيس النظام بشار الأسد في حديثه أخيرا ما يحدث إلى وجود عشرات مليارات الدولارات لسوريين في المصارف اللبنانية التي امتنعت عن السماح بسحب مبالغ كبيرة من النقود بسبب الأوضاع الداخلية في لبنان.
والواقع أن جملة أسباب تراكمت خلال السنوات الماضية لتصل بالأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلاد إلى هذه الحال، ومن ضمنها ما يسوقها مسؤولو النظام، لكن السبب الأهم الذي لا يتحدث عنه هؤلاء المسؤولون، حسب مراقبين، هو أن النظام يوجه معظم الموارد المتاحة، الشحيحة أصلا، باتجاه المجهود الحربي والمعارك التي يخوضها في طول البلاد وعرضها، فضلا عن تعمق الفساد.
ويأتي ذلك في ظل تشكّل طبقة من المافيات وتجار الحروب في قلب بنية النظام ترعى هذا الفساد، وتستحوذ على الموارد المتاحة، بما في ذلك ما يصل من مساعدات خارجية، والتي من المفترض أن توجه للمحتاجين والمناطق المنكوبة.
وتفاقمت مشاهد الطوابير الطويلة أمام محطات الوقود والمخابز والتي وصلت إلى حوادث إطلاق النار وسقوط إصابات في حلب واللاذقية وغيرها من المحافظات.
ولم يجد مسؤولو النظام وسيلة لتأمين السيولة سوى رفع الأسعار، ابتداء برفع سعر الوقود بنسبة 54 في المائة وصولا إلى رفع سعر الخبز مع ندرة في وجود المادتين في الأسواق.
ويمهد رفع سعر الوقود لموجة واسعة من ارتفاع الأسعار المرتبطة بالوقود، مثل أجور وسائل النقل والدواجن والبيض والخضروات التي تحتاج إلى الوقود لإنتاجها ونقلها.
وتوقع رئيس القطاع النسيجي في غرفة صناعة دمشق وريفها، مهند دعدوش، ارتفاعا كبيرا في أسعار الملابس هذا الشتاء يصل إلى 3 أضعاف، معتبرا أن قطاع النسيج الأكثر تضررا من رفع سعر المازوت الصناعي، لأن 70% من كلف إنتاج المصابغ النسيجية تعتمد على المازوت والفيول، مشيرا إلى أن بعض الصناعيين توقفوا عن الإنتاج بسبب ارتفاع سعر المحروقات، والبعض الآخر استمر لكنه رفع أسعاره، ومنهم من قلل الإنتاج لتعويض الخسائر.
وأصدرت حكومة النظام أخيرا قرارات برفع أسعار حوامل الطاقة، بمضاعفة سعر ليتر المازوت التجاري والصناعي الحر.
كما من الملاحظ أن مشكلة الانقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي في الآونة الأخيرة، تزامنت مع إغراق السوق المحلية بالمولدات والبطاريات والشواحن الصينية، حيث من المعتقد وجود علاقة بين الأمرين، وذلك انطلاقا من خبرة الناس مع حلقات الفساد في النظام، الذي يختلق الأزمات لخدمة بعض المتنفذين.
واعتبر ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي أن من استورد هذه المعدات لا بد أن يكون قد نسق مع جهات عليا في النظام، أو على الأقل على معرفة بوضع البلد الكهربائي، الذي انهار بشكل كامل، دون أسباب واضحة.
وكان التيار الكهربائي انقطع عن كامل الأراضي السورية، مطلع الشهر الجاري لتعقب ذلك إقالة مسؤولين بارزين في القطاع، ثم بروز مطالب بخصخصة الكهرباء، ما يشير إلى تخبط وفوضى في وزارة الكهرباء أو يكون ذلك تمهيدا لبيع شركة الكهرباء للقطاع الخاص، دون أن تتضح حتى الآن الأسباب الحقيقية التي جعلت الشبكة الكهربائية في البلاد تنهار على هذا النحو المفاجئ.
ويعزو البعض ذلك إلى نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات التوليد، والتي يعمل أغلبها على الغاز والفيول، مع شبهات فساد، تتعلق ببيع الفيول، للتجار وأصحاب المعامل، وهو السبب الذي دفع رئيس حكومة النظام حسين عرنوس، لإقالة مسؤولين بارزين في وزارة الكهرباء.
وهذا الوضع الكارثي طاول حتى الطبقات التي ظل ينظر إليها خلال العقود الماضية بأنها ميسورة وقلما تتأثر بتدهور الأوضاع الاقتصادية مثل فئة الأطباء الذين قد تتوفر لديهم سيولة مالية أكثر من غيرهم، لكن الكثير منهم الآن يعجز عن توفير الاحتياجات المعيشية الأساسية بما فيها مادتا الخبز والمحروقات.
وما ساهم في تدهور الأوضاع المعيشية هو تهاوي العملة المحلية، إذ يبلغ سعرها الرسمي نحو 1250 ليرة مقابل الدولار وفي السوق السوداء يصل إلى أكثر من 2500 ليرة.
وحسب تقرير لنقابة العمال التابعة للنظام، فإن الأسرة المكونة من 5 أشخاص، تحتاج إلى 600 ألف ليرة سورية شهريا لسد نفقات المعيشة، بينما متوسط الأجور حاليا في البلاد لا يتعدى خمسين ألف ليرة.
ويشير التقرير إلى تراجع القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود بنسبة تزيد على 90 في المائة، بسبب الارتفاعات الكبيرة في الأسعار التي وصلت إلى مستويات تجاوزت نسبتها 1000 في المائة.
كما أن تردي الأوضاع المعيشية كان له تأثيره السلبي الواضح على التعليم لدى أفراد الأسرة، إذ أدى إلى دفع الكثير من العائلات لإرسال أطفالهم إلى سوق العمل من أجل تأمين مصدر دخل إضافي من جهة، ولتوفير نفقات التعليم من أجور نقل ولباس وقرطاسية وغيرها من جهة ثانية.
وفي ظل هذه الظروف المتردية، كان مستغربا أن يستضيف النظام أخيرا مؤتمرا لإعادة اللاجئين السوريين في الخارج والذين يزيد عددهم عن 7 ملايين شخص، وفق تقديرات غير رسمية، حيث يعجز عن توفير الخدمات الأساسية لمن هو داخل البلاد أصلا.
ويرى مراقبون أن النظام غير جاد، وغير معني بعودة اللاجئين الذين تسببت سياساته وممارساته في تهجيرهم، بل جاء عقد المؤتمر بضغط روسي في محاولة لتعويم النظام واستجرار مساعدات خارجية تحت بند إعادة تأهيل البنى التحتية لاستقبال اللاجئين.
ومع هذا التردي المعيشي، بدأت تعلو أصوات الاحتجاج والتذمر، حتى في أوساط الحاضنة الشعبية للنظام والتي برزت بشكل خاص مع اندلاع موجتي الحرائق في الساحل السوري أخيرا، ما دفع رئيس النظام وزوجته أسماء الأسد والعديد من المسؤولين في النظام إلى زيارة تلك المناطق بهدف امتصاص الاحتجاجات عبر تقديم وعود زائفة بتعويضهم وتحسين الخدمات في مناطقهم.
أما في المناطق الأخرى، فقد صدرت دعوات علنية للاحتجاج والتظاهر، كما حصل في محافظة السويداء نهاية الشهر الماضي، حيث دعا ناشطون الأهالي للخروج بمظاهرات سلمية في المدينة، احتجاجا على الوضع المعيشي المتردي وارتفاع الأسعار.
وكانت محافظة السويداء شهدت مطلع العام الحالي مظاهرات على خلفية الأوضاع الاقتصادية السيئة تحت شعار "بدنا نعيش". كما شهدت وقفات احتجاجية في أيام الأحد من كل أسبوع، خلال الأشهر القليلة الماضية.
ومع انسداد الآفاق أمام معظم الناس، وفقدان الأمل بتحسن الأوضاع المعيشية، فضلا عن التدهور الأمني، وحالات الخطف لطلب الفدية، وملاحقات النظام الأمنية للشباب بهدف سوقهم للخدمة العسكرية، يسعى الكثير من المواطنين إلى مغادرة البلاد بأية طريقة، حيث يتجه يوميا العشرات باتجاه الحدود مع تركيا عبر مهربين يتقاضون عمولات عالية، ويمكثون على الحدود بضعة أيام على أمل أن تتاح لهم فرصة لعبور الحدود إلى تركيا.
لكن هذا الأمر ليس هينا ودونه عقبات كثيرة تبدأ بتوفير ما لا يقل عن ألف دولار لدفعها للمهرب، مرورا بتحمل أعباء ومخاطر الطريق، ثم مخاطر البقاء على الحدود في مناطق سيطرة الفصائل التي كثيرا ما تعتقل الشباب القادمين من مناطق سيطرة النظام.
وفي هذا الإطار، أعلن المجلس المحلي لمدينة جرابلس شمالي حلب فرض منطقة عسكرية محظورة على الحدود السورية التركية قدرها 400 متر، يغرم كل من يتوجه إليها من أبناء المنطقة وغيرهم دون إذن مُسبق.
وفي حين يأمل مسؤولون أميركيون وغربيون حدوث انهيارات مفاجئة، جراء تراكم الأزمات الداخلية وتردي الأوضاع الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام، من خلال "حملة الضغط الأقصى" على النظام التي تتضمن أدواتها عقوبات "قانون قيصر" والعزلة السياسية والإهمال الاقتصادي والوجود العسكري الأميركي والغارات الإسرائيلية، ما قد يدفعه إلى تقديم تنازلات سياسية، يرى مراقبون أن هذه الحملة قد لا تحقق الهدف المرجو أو المعلن منها، لكنها قد تؤدي إلى انهيارات معيشية أو بعض الفوضى في مناطق سيطرة النظام.