يتساءل المستثمرون في أسواق المال حول القيمة الجديدة التي سيرتفع إليها سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسية خلال العام الجاري، بعد قرار مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" يوم الأربعاء رفع الفائدة بنسبة 0.75 نقطة للمرة الثانية بهذه النسبة خلال شهرين، وإعلان نيته رفع الفائدة أكثر خلال الأشهر المقبلة وإن كانت ستكون بنسبة أقل وفق محللين.
وبات المستثمرون في أسواق الصرف العالمية يتوقعون حالياً أن يتمكن الدولار، خلال الأشهر المقبلة، من التفوق على القمة السعرية التي بلغها في العام 1985، حينما اضطرت معها الدول الصناعية الخمس الكبرى، وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية واليابان وأميركا، لعقد قمة في نيويورك لخفض قيمة الدولار، ومعالجة الأزمة التي سببتها العملة الأميركية القوية للنظام النقدي العالمي. ويبدو أن ما يحدث في سوق العملات شبيه بما حدث في تلك الفترة من ثمانينيات القرن الماضي. حيث إن الدولار الذي يواصل الارتفاع بات يهدد النظام العالمي، ولم يقتصر انهيار العملات على الاقتصادات الناشئة، ولكن امتد ليشمل الاقتصادات الكبرى.
وتشير بيانات مجلة الإيكونومست البريطانية إلى أن مواصلة الدولار الارتفاع يهدد عملات الاقتصادات الرأسمالية الكبرى، حيث ارتفع منذ بداية العام الجاري بنسبة 15% مقابل الين الياباني و10% مقابل الجنيه الإسترليني و8% مقابل اليورو و5% مقابل اليوان الصيني.
وبعد أن كانت تداعيات قوة الدولار السلبية مقتصرة على عملات الاقتصادات الناشئة والدول النامية، باتت تهدد الاقتصادات الصناعية الكبرى، في وقت يعاني فيه العالم من مخاطر الدخول في دورة "ركود تضخمي" وظروف سياسية غير مستقرة.
وفي ذات الشأن، تشير مؤشرات أسعار العملات بصحيفة "وول ستريت جورنال"، أمس الخميس، إلى ان مؤشر الدولار كسب أمام 16 عملة رئيسية في سوق الصرف نسبة 8.7% حتى نهاية يونيو/ حزيران الماضي، وهو ما يعني أكبر ارتفاع للعملة الأميركية في نصف عام منذ العام 2010، كما ارتفع المؤشر بنسبة 1.4% خلال الشهر الجاري حتى تعاملات أمس.
وبحسب خبراء، تستخدم الولايات المتحدة في الوقت الراهن آلية رفع الفائدة على أمل خفض معدل التضخم. وتأمل عبر هذه الآلية خفض أسعار المواد الاستهلاكية المستوردة بالأسواق المحلية بالدولار القوي من دول ذات عملات ضعيفة. وذلك على الرغم من أخطار الفائدة المرتفعة والدولار القوي على النمو الاقتصادي الأميركي واحتمال الوقوع في فخ "الركود"، حيث إن الدولار القوي يضرب من جهة الصادرات الأميركية والقوة الشرائية للمستهلك الأميركي، ويهدد كذلك بكساد أسعار المساكن وارتفاع أقساط الديون العقارية من جهة أخرى.
ولكن بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي يراهن على نجاح آلية الدولار القوي في خفض فاتورة البضائع المستوردة إلى أميركا من الاقتصادات الناشئة، وحتى من الاقتصادات الصناعية مثل أوروبا واليابان ودول النمور الآسيوية والصين، وبالتالي يرى البنك المركزي الأميركي أن الدولار القوي سيعمل تلقائياً على خفض معدل التضخم، حيث إن المستورد الأميركي يدفع بالدولار لسلع تباع بعملات ضعيفة، وهو ما يترجم عملياً إلى رخص السلع بالسوق الأميركي.
من جانبها، أظهرت بيانات بلومبيرغ لأسعار العملات، في الفترة الصباحية أمس الخميس، تراجع الين الياباني والدولار الكندي واليورو والفرنك السويسري واليوان الصيني. وبحسب البيانات، تراجع سعر صرف اليورو خلال الشهر الجاري في بعض الفترات إلى أدنى مستوى منذ العام 2002، كما تراجع في تعاملات أمس الخميس إلى قرابة دولار واحد، وارتفع سعر الدولار إلى أكثر من 135 يناً في أسواق طوكيو.
وعدا الجنيه الإسترليني الذي ارتفع أمس الخميس وسط المضاربات الكثيفة عليه، تراجعت معظم العملات الرئيسية. وحدث ارتفاع العملة البريطانية لأن المستثمرين يرون أن الجنيه رخيص الآن وربما ستنتهي دورة الانخفاض التي طاولته خلال الأشهر الماضية، بعد حسم حزب المحافظين معركة رئاسة الوزراء واختيار الشخصية التي ستقود البلاد بعد استقالة بوريس جونسون. وبات من الواضح أن وزيرة الخارجية البريطانية الحالية ليز تراس هي المرشح المفضل لرئاسة الوزراء بعد فترة الاضطراب السياسي التي عاشتها البلاد أثناء حكم جونسون.
تداعيات الدولار القوي على الاقتصاد العالمي:
حسب تحليل كتبه البروفسور ألكسندر تزيما ليس والبروفسور يوان وانغ في جامعة شيفيلد البريطانية، فإن الدولار القوي سيقود تلقائياً إلى تراكم الثروات العالمية في الولايات المتحدة وإفقار العالم، حيث إن صناديق الاستثمار العالمية والأثرياء يفضلون بيع الأصول التي يملكونها بالعملات المحلية وإيداع أموالهم في البنوك الأميركية في الوقت الراهن، وما دامت السياسات النقدية الأميركية تحبذ الدولار القوي، فإن شراء الأصول الدولارية سيتفوق على الأصول المحلية في دول العالم لأن الإيداع بالدولار وأصوله يحقق للمستثمرين الأجانب عوائد أفضل حينما يكون الدولار قوياً والفائدة عليه أكبر. ويقول الخبيران يوان وانغ وألكسندر تزيما ليس، في تحليلهما بمؤسسة "الخدمات الإعلامية الأيرلندية ـ تي آر إي"، إن هذا العامل يهدد تدريجياً الاقتصادات العالمية بالانكماش ويراكم الثروات في الولايات المتحدة. ويرى التحليل أنه على الرغم من أن البنوك المركزية العالمية تتجه هي الأخرى لرفع الفائدة، إلا أن دولها تواجه أزمات في الوقت الراهن.
على صعيد اليورو، تواجه القارة الأوروبية مخاطر الحرب الروسية في أوكرانيا واحتمالات توسعها إلى بعض دول أوروبا الشرقية، كما تهدد أسعار الطاقة المرتفعة، خاصة احتمالات قطع إمدادات الغاز الروسي تماماً، بمزيد من الأزمات المعيشية والغلاء، خاصة في دول الاقتصادات الضعيفة مثل إيطاليا واليونان، وبالتالي يتخوف المستثمرون من احتمال وقوع أوروبا في أزمة ديون جديدة لا تقل مخاطرها عن أزمة ديون اليورو في العام 2011. وبالتالي يرى الخبيران أن أوروبا مهددة بهروب المستثمرين من سندات الدين ذات المخاطر العالية.
أما بالنسبة للجنيه الإسترليني، فيقول الخبيران في التحليل إن الجنيه الإسترليني يعاني من تداعيات "بريكست" على حي المال البريطاني ومن انكماش النمو الاقتصادي بالبلاد، إضافة إلى احتمال إجراء استفتاء آخر على استقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة وتكوين دولة مستقلة. وهذا العامل السياسي سيظل سيفاً مسلطاً على رقبة العملة البريطانية إلى حين حسمه تماماً من قبل القيادة السياسية التي سيجرى اختيارها في سبتمبر/ أيلول المقبل.
على صعيد العملات الآسيوية، يرى مدير إدارة آسيا والمحيط الهادئ لدى صندوق النقد الدولي، كريشنا سرينيفاسان، أن ارتفاع مستويات الديون المدفوع بالتضخم وتشديد الأوضاع المالية في جميع أنحاء آسيا مدعاة للقلق. وذكر سرينيفاسان في تعليقات لقناة "سي إن بي سي": إذا نظرت إلى ديون المنطقة، وإذا نظرت إلى حصة آسيا من إجمالي الديون، والدين الإجمالي، فقد ارتفعت بشكل حاد للغاية. وقال سرينيفاسان إن الدول المعرضة للخطر تشمل لاوس ومنغوليا وجزر المالديف وبابوا غينيا الجديدة، وتخلفت سريلانكا بالفعل عن سداد ديونها.
وفي الصين، تثار المخاوف حول مستقبل النمو الاقتصادي بسبب أزمة العقارات وتداعيات الفيضانات وجائحة كورونا. وهذه الكوارث تهدد مستقبل اليوان الصيني، وربما تقود تلقائياً إلى تراجع قيمته خلال العام الجاري.
دور الدولار كعملة الاحتياط العالمية:
رغم ما يثار عن استراتيجيات صينية روسية لإنشاء عملة احتياط دولية لاستبدال الدولار، إلا أن الورقة الخضراء لا تزال تحافظ على نسبة 58.81% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي بالبنوك المركزية حسب بيانات صندوق النقد الدولي، ومن المتوقع أن تواصل حصة الدولار الارتفاع خلال العام الجاري، بسبب حاجة البنوك المركزية العالمية له لتسديد الديون الخارجية وتفادي الوقوع في هاوية التخلف عن السداد، وكذلك يستفيد الدولار من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.