تتخذ الشركات في جميع أنحاء العالم خطوات أكبر لتعزيز خبرتها الجيوسياسية للمساعدة في إصدار أحكام دقيقة بشكل متزايد حول الأسواق المستهدفة وسلاسل التوريد، في ظل حالة الاستقطاب المتصاعدة، لاسيما بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وباتت الشركات تنظر عن كثب إلى النقاط الساخنة سياسياً وعسكرياً للمساعدة في اتخاذ القرارات. وفي حين أن البعض يستخدم الاستشارات المتخصصة، فإن شركات أخرى مثل "هيتاشي" اليابانية متعددة الصناعات و"لازارد" العالمية لإدارة الأصول، تقوم بتعيين دبلوماسيين سابقين وكبار موظفي الخدمة المدنية والسياسيين لتقديم المشورة مباشرة إلى المديرين التنفيذيين.
قال اللورد البريطاني مالوك براون، الدبلوماسي السابق ورئيس مؤسسة المجتمع المفتوح، إنه في الماضي "كان هناك دائما بعض الدبلوماسيين المتقاعدين في مكتب الزاوية لشركة متعددة الجنسيات على استعداد لتقديم المشورة للرئيس التنفيذي بشأن بعض الصعوبات السياسية المحلية.. لكن ما حدث في الآونة الأخيرة هو أننا انتقلنا من ذروة العولمة، حيث تحدد الأسواق موقع التصنيع والبيع، إلى عصر سوق عالمية أكثر تسييساً بكثير".
وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي، إلى عدم استعداد عدد من الشركات لمواجهة المزيد من التداعيات، خاصة في ظل وجود بؤر ساخنة عدة، منها أيضا علاقات الصين مع تايوان، وحتى في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها مع احتمال وصول الرئيس السابق دونالد ترامب مجددا إلى البيت الأبيض.
وفي اليابان، التي توترت علاقاتها مع جيرانها بما في ذلك الصين وروسيا، قامت الشركات متعددة الجنسيات مثل "هيتاشي" و"سنتوري" وأكبر البنوك في البلاد في السنوات الثلاث الماضية بتعيين دبلوماسيين سابقين وخبراء في العلاقات الدولية ومراسلين أجانب في محاولة لتوسيع خبراتهم في مجال السياسة الخارجية وتقييم المخاطر الجيوسياسية.
وفي أماكن أخرى من الشركات اليابانية، جرى استحداث منصب "كبير مسؤولي المخاطر الجيوسياسية" خصيصاً في إشارة إلى مدى جدية التعامل مع هذا الموضوع الآن، وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
وقال أحد الدبلوماسيين اليابانيين المقيمين حالياً خارج اليابان: "ذهب اثنان من زملائي مؤخراً للعمل في شركات تجارية، وذهب أحدهما إلى شركة طاقة"، مضيفًا أنه تلقى أيضاً عرضاً واحداً على الأقل. وأكد أن "الشركات في حاجة ماسة إلى فهم أكثر تفصيلاً للمخاطر".
وقالت ميتسوبيشي للصحيفة البريطانيا إنها أنشأت لجنة استخبارات عالمية العام الماضي ولديها نظام لتقديم المعلومات حول "المخاطر الجيوسياسية، والظروف الاقتصادية، والتقنيات الجديدة، واتجاهات السياسة" إلى الإدارة. وأضافت " نمضي قدماً في هذه المبادرات بناءً على الأهمية المتزايدة لذلك".
وفي الوقت نفسه، تقوم الشركات اليابانية الصغيرة بتعيين مستشارين خارجيين، وهو ما يقول المستشارون إنه معدل غير مسبوق. وقال أحد المستشارين الذين يقدمون المشورة للعديد من الشركات اليابانية إن غزو أوكرانيا عزز فكرة أن المخاطر أصبحت أقل قابلية للتنبؤ بها، والشركات باتت بحاجة إلى مساعدة خارجية، مضيفا "إنهم (الشركات) لا يريدون منا أن نخبرهم عن موقف أو موقفين فقط.. إنهم يطلبون منا تصنيف جميع المخاطر التي يمكن أن يتعرضوا لها في جميع أنحاء العالم".
وكانت صناعات مثل النفط والغاز، التي لها عمليات كبيرة في أجزاء مضطربة من العالم، تقليدياً هي العملاء الرئيسيين للمستشارين الجيوسياسيين. ولكن مع قيام الشركات في القطاعات الأخرى بتوسيع أسواقها وسلاسل التوريد الخاصة بها، فقد وجدت نفسها أيضاً في حاجة إلى الخبرة.
وإحدى الصناعات التي اكتسبت خبرة جيوسياسية داخلية كبيرة هي قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة، الذي يجب أن يتنقل عبر مزيج من الاعتماد على الرقائق المتخصصة المصنوعة في تايوان ووجودها في السوق الصينية. ويقول بعض المحللين إن شركات التكنولوجيا الكبرى اكتسبت ثقلاً سياسياً كبيراً من خلال تحويل كبار المسؤولين التنفيذيين إلى سفراء لهذه الصناعة. وفي حالة مايكروسوفت، فهي واحدة من الشركات الوحيدة التي لديها مكتب لشؤون الأمم المتحدة في نيويورك.
ووفق ماناس تشاولا، الأكاديمي ومؤسس شركة لندن بوليتيكا الاستشارية فإن "صناعة التكنولوجيا تتفوق على النفط والغاز في إدارة المخاطر الجيوسياسية، بسبب مدى تعاملها مع المستهلك".
وبينما تبحث الشركات عن مزيد من التوجيه، انتقل مؤخراً عدد من مسؤولي المخابرات والدبلوماسيين السابقين إلى القطاع الخاص. وأصبح مستشار الأمن القومي البريطاني السابق ستيفن لوفغروف مستشاراً كبيراً في شركة إدارة الأصول "لازارد" هذا العام، بينما انضم الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطانة "إم آي 6" أليكس يونغر إلى بنك "غولدمان ساكس" كمستشار في عام 2021، لينضما إلى قائمة طويلة من كبار الموظفين الحكوميين والدبلوماسيين الذين يقدمون المشورة الآن للشركات، بما في ذلك رئيس البنك الدولي السابق روبرت زوليك، وباسكال لامي المفوض التجاري السابق للاتحاد الأوروبي والمدير العام لمنظمة التجارة العالمية، وكلاهما يعمل في شركة العلاقات العامة "برونزويك".
وقال مارك فريبيرن، الشريك في شركة التوظيف "أودجرز بيرندتسون"، إن الشركات التي توظف سفراء سابقين ومسؤولين عسكريين واستخباراتيين للعمل الاستشاري يمكن أن تدفع مبالغ تصل إلى 2000 جنيه إسترليني إلى 5000 جنيه إسترليني في الساعة.
وبالإضافة إلى تقديم التحليل والمشورة، يمكن للاستشاريين المساعدة في فتح الأبواب أمام الشركات التي تسعى إلى بناء علاقات مع الحكومات الأجنبية. وقالت دانا وايت، رئيسة الاستشارات الاستراتيجية العالمية في "أنكورا"، وهي شركة استشارية مقرها الولايات المتحدة، إن شركتها اشترت شركة استشارية أميركية صينية ساعدت في إقامة "ارتباطات رفيعة المستوى" بين المديرين التنفيذيين والمسؤولين الصينيين.