مع اقتراب العام من انتصافه، أصبحت أزمة التخلف عن سداد الدين العام الأميركي كابوساً يؤرق أغلب الأميركيين، خوفاً من العواقب الاقتصادية والمالية المدمرة التي قد تترتب على تخلف الحكومة لأول مرة في تاريخها عن سداد التزاماتها، وهو أمر لم يعد مستبعداً خلال الأسابيع الأخيرة.
وعلى الرغم من أن التخلف عن السداد قد يؤدي إلى القضاء على ملايين الوظائف، وإحداث الفوضى في "وول ستريت"، فإن البيت الأبيض والقادة الجمهوريين في واشنطن ليسوا قريبين من التوصل إلى اتفاق لتجنب كارثة مرتقبة في يوليو/ تموز المقبل.
وبينما يشتكي البعض من عدم وجود حوار حول هذا الموضوع في الوقت الحالي، يظهر كيفين مكارثي، رئيس مجلس النواب (الجمهوري)، على شاشات القنوات المختلفة بين الحين والآخر داعياً إلى حوار لحل الأزمة، بينما لا يبدو الحزب الديمقراطي عابئاً في الوقت الحالي، بعدما تم تأجيل الأزمة لعدة أشهر، تنتهي في يوليو/ تموز.
وتتوق أغلبية جمهورية جديدة في مجلس النواب إلى مواجهة الإسراف في الإنفاق، وهي مصممة على عدم التنازل. وهم يلقون باللوم على ما يعتبرونه إنفاقًا فيدراليًا مفرطًا بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والبنزين وتزايد الديون الوطنية.
وبقيادة مكارثي استبعد الجمهوريون تمرير زيادة "نظيفة" في سقف الديون حتى مع إصرار البيت الأبيض على تمرير مثل هذا التشريع دون شروط.. هو بالتأكيد مأزق، لا تظهر فيه أي بوادر للتراجع قبل الموعد النهائي للعمل بالإجراءات الاستثنائية في يوليو/ تموز.
وفي الوقت الذي يسير فيه السياسيون مرغمين نحو أزمة سقف الدين المحتملة، بدأت الأسواق المالية في تسعير بعض الأدوات على أساس وجود فرصة صغيرة، لكنها متنامية، لتعثر كارثي في السداد.
وزاد احتمال تخلف حكومة الولايات المتحدة عن السداد إلى ما يقرب من 2%، وفقًا للنماذج التي استخدمتها وحدة الأبحاث في "مورغان ستانلي" بالتعاون مع شبكة "سي أن أن". وتستند حسابات تلك النماذج إلى كلفة تأمين ديون الولايات المتحدة في السوق، باستخدام عمليات مبادلة سعر الفائدة.
وعلى الرغم من أن احتمال التخلف عن السداد ضئيل، فقد زاد بمقدار خمسة أضعاف تقريبًا منذ 2 يناير/ كانون الثاني، بحسب مورغان ستانلي. وقال آندي سباركس، رئيس أبحاث إدارة المحافظ في مورغان ستانلي، في لقاء مع شبكة سي أن أن: "لقد ارتفع احتمال التخلف عن السداد بشكل ملحوظ"، واصفاً هذا الارتفاع بأنه صغير، "ولكنه ليس صفرًا"، على حد تعبيره.
ورأى سباركس أنه "لا يمكن أن يشعر أي شخص بالرضا عن هذا الأمر، الذي سيحدث اضطرابًا في النظام المصرفي العالمي".
وأكد مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في وكالة موديز أناليتيكس، أن التخلف عن السداد الفعلي أمر مخيف "لكل من وول ستريت وماين ستريت (أي المواطن العادي)"، واصفًا هذا الفعل بأنه "هرمجدون مالي".
وبلغ سقف الديون 31.4 تريليون دولار في يناير/ كانون الثاني، وهو ما أجبر وزيرة الخزانة جانيت يلين على فرض "الإجراءات الاستثنائية" لتجنب التخلف عن السداد. واستخدمت وزيرة الخزانة لغة حاسمة، تليق برئيس بنك مركزي سابق، تحذر فيها من العبث بسقف الديون، وقالت، قبل نهاية الأسبوع الماضي، إن خرق سقف الديون قد يؤدي إلى ركود طويل الأمد وأزمة مالية عالمية.
وقال كبير الاقتصاديين في بنك غولدمان ساكس يان هاتزيوس، لشبكة سي أن أن في يناير/ كانون الثاني، إنه "حتى التخلف الجزئي عن السداد قد يتسبب في ركود واضطراب الأسواق المالية العالمية". وتقدر وكالة "موديز" أن الخرق القصير لسقف الدين من شأنه أن يقضى على ما يقرب من مليون وظيفة. ويفسر كل ذلك الأسباب وراء اعتقاد الكثيرين أن واشنطن ستنجز صفقة ما قبل وقوع الكارثة، كما فعلت في أوقات سابقة.
وعلى الرغم من أن القادة في واشنطن لا يتفاوضون بجدية بشأن صفقة سقف الدين، إلا أنه لا يزال هناك متسع من الوقت، كما يقول أغلب المحللين الاقتصاديين. وقدر مكتب الميزانية في الكونغرس أنه بدون حل أزمة سقف الدين ستكون لدى الحكومة أموال كافية لتجنب التخلف عن السداد حتى الفترة ما بين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول، ولكن التوقيت الدقيق لذلك سيعتمد على عمليات تحصيل الضرائب لعام 2022 في الشهر الجاري.
وقال توم باركين، رئيس البنك الفيدرالي في ريتشموند، لشبكة سي أن أن، الأسبوع الماضي، إنه من الصعب تخيل خرق الحكومة لسقف الدين، إلا أنه أقر بأنه في حال حدوث ذلك فسيضطر البنك الفيدرالي إلى الرد مثلما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
ويوم الأحد، قالت وكالة "أسوشييتد برس" إن المعارك في الكونغرس حول زيادة سقف الاقتراض في البلاد كانت دائماً مثيرة للجدل، مشيرة إلى أن المشرعين وجدوا هذه المرة طريقة للتراجع عن حافة الهاوية قبل أن تبدأ الأسواق في الذعر، وتخاطر الأمة بالتخلف عن سداد ديونها بشكل خطير.
ورغم أن "أسوشييتد برس" نقلت عن بعض المشرعين قولهم إن "معركة هذا العام لها طابع مختلف"، يبدو الوضع مشابهاً للظروف السياسية في عام 2011، عندما وصلت أغلبية جمهورية جديدة إلى السلطة، بعد فوز مدوٍ في الانتخابات، وكانت مصممة على مواجهة البيت الأبيض الديمقراطي، للحصول على تخفيضات كبيرة في الإنفاق مقابل زيادة سقف الدين، وهو تقريباً ما حدث وقتها.
تكررت المأساة في 2013، إلا أن الرئيس الأميركي وقتها باراك أوباما كان متشدداً ورفض الدخول في مفاوضات، ونجح في إقرار الزيادة المطلوبة، اعتماداً على شعبيته الجارفة.
لكن في الوقت الحالي لا يبدو الرئيس جو بايدن قادراً على فعل ذلك، حيث تراجعت الشعبية، التي لم تكن جارفة أصلاً، واستمر التضخم عند مستويات مؤلمة، لفترات مطولة، بل وخفضت "أوبك+" إنتاجها مجدداً، ما يدعم ارتفاع أسعار النفط، ومن ثم التضخم. فهل يرضخ بايدن، بعد أن كان يرفض أي تفاوض قبل شهرين، أم نرى أميركا تتخلف عن السداد لأول مرة في تاريخها؟