استمع إلى الملخص
- زيادة الأجور وتحسن مستوى المعيشة: شهدت روسيا زيادة في الأجور الحقيقية بنسبة 7.8% في عام 2023 و10.1% في النصف الأول من عام 2024، مما ساهم في رفع مستوى معيشة المواطنين.
- التفاوت الطبقي والتحديات المستقبلية: رغم التحسن الاقتصادي، زادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، مما قد يؤدي إلى توترات اجتماعية واحتجاجات مستقبلية، مع استمرار الفساد في تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
بعد مرور عامين ونصف العام على بدء الحرب الروسية الأوكرانية المفتوحة في بداية عام 2022، يبدو الاقتصاد الروسي متماسكاً وسط تحسن مؤشراته الرئيسية، بما فيها تراجع عدد الفقراء إلى 12.4 مليون شخص في الربع الثاني من العام الحالي مقابل 14.7 مليون في الفترة ذاتها من العام الماضي، وفق بيانات صادرة عن هيئة الإحصاء الروسية "روس ستات"، ووكالات إعلام روسية في بداية سبتمبر/أيلول الجاري.
وبذلك تظهر البيانات الإحصائية أن نسبة الفقراء في روسيا تراجعت إلى ما دون 10%، لتبلغ نسبة من يعيشون تحت خط الفقر 8.5%، علماً أن "روس ستات" تحدده بنحو 15 ألف روبل (نحو 170 دولاراً) فقط للفرد، رغم أن ذلك تزامن مع تفاوت الدخول والثروات في البلاد، وفقاً للهيئة.
إلى ذلك، أظهر تقرير حديث أعده مركز تحليل الاقتصاد الكلي والتوقعات قصيرة الأجل زيادة حادة في عدد الأشخاص الذين في مقدورهم شراء كل ما يحتاجون إليه باستثناء العقارات من 6% إلى 15% خلال السنوات الثماني الأخيرة، بينما ارتفعت نسبة شريحة الأثرياء والطبقة الوسطى العليا (أي من لا يواجهون أي صعوبات مادية على الإطلاق) هي الأخرى من ما نطاق 1%-2% إلى ما بين 4%-5%.
وعلى مدى آخر عام ونصف العام، ازداد مستوى معيشة المواطنين باطراد، إذ سجلت الدخول الحقيقية نمواً بنسبة بلغت 5.6% في عام 2023، ثم ارتفعت وتيرة نموها إلى 7.4% في النصف الأول من عام 2024. وشهد عام 2023 نمواً لجميع فئات مداخيل السكان من الأجور والإعانات الاجتماعية وريادة الأعمال وغيرها من المصادر.
إلا أن التقرير ذاته أظهر أن مؤشرات التفاوت في المجتمع ازدادت أيضاً، إذ إن الارتفاع المتسارع لأجور العاملين في قطاعات بعينها أدى إلى الارتقاء بقدراتهم الاستهلاكية والادخارية، إذ بات عدد أصحاب الدخول فوق الـ100 ألف روبل (1100 دولار تقريباً) يفوق تعداد الشريحتين اللتين تسبقهم (أي من 60 إلى 75 ألفاً ومن 75 إلى 100 ألف روبل) على حدة.
وكان لارتفاع الأجور النصيب الأكبر من زيادة المداخيل، إذ ارتفعت الأجور الحقيقية بنسبة 7.8% في عام 2023 وبنسبة 10.1% إضافية خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 2024. وجاء في نص التقرير: "في عام 2024، تسارعت وتيرة زيادة الأجور في أغلب القطاعات، ولكن بالدرجة الأولى في القطاع المالي (بنسبة 16%) والبناء (13%) والأعمال الإدارية (12%) والتصنيع (13%) والصناعات التعدينية (12%)".
الحرب قاطرةً الاقتصاد الروسي
اعتبر مدير مركز بحوث مجتمع ما بعد الصناعية (منظمة غير ربحية مستقلة)، فلاديسلاف إنوزيمتسيف، أن أجور المصانع الحربية والمشاركين في أعمال القتال في أوكرانيا شكلت قاطرة لزيادة معدلات الأجور، مشككاً في الوقت نفسه في الجدوى طويلة الأجل لشحن الاقتصاد الروسي بأموال الحرب.
ويقول إنوزيمتسيف في حديث لـ"العربي الجديد": "أولاً، حفز ارتفاع الإنفاق العسكري زيادة أجور العاملين بالمصانع الحربية وبالمجالات ذات الصلة والدفعات الهائلة للعسكريين المتعاقدين ومن تمت تعبئتهم. ثانياً، شكلت قروض الرهن العقاري المدعومة من الدولة دعماً للطلب على العقارات. ثالثاً، يضطر أرباب العمل في القطاع الخاص إلى رفع الأجور لمنافسة المصانع الحربية وسد النقص في العمالة في الاقتصاد الروسي. رابعاً، زاد استبدال الواردات، ولا سيما في القطاع الخدمي من عوائد قطاعات السياحة الداخلية والمطاعم والترفيه والنقل".
وحول رؤيته لتأثير زيادة أعداد المتعاقدين مع وزارة الدفاع على إحصاءات متوسط الأجور، يضيف: "كان يتم رصد زيادة عدد (الأثرياء الجدد) والآمال في مساهمتهم في عجلة الاقتصاد الروسي حين كان يزداد عدد المتعاقدين، ولكنه توقف عن الزيادة".
واعتبر أن قرار المصرف المركزي مواجهة تسارع التضخم بأي ثمن قد ينهي مرحلة النمو الاقتصادي الحربي في عام 2025، مستطرداً: "لن يشكل ذلك كارثة بأي حال من الأحوال، ولكنه قد يصبح نقطة يبدأ فيها إرهاق السكان الروس من التداعيات الاقتصادية للحرب، لأن أغلبهم لم يروا في الحرب تهديداً لرخائهم هم شخصياً بعد".
وكان المصرف المركزي الروسي قد رفع سعر الفائدة الأساسية على عدة مراحل من 7.5% في منتصف العام الماضي إلى 19% حالياً، وسط سعي السلطات المالية الروسية لكبح جماح التضخم المتسارع في الاقتصاد الروسي مع تزايد الطلب الداخلي.
من جهته، يقلل الناشط اليساري، إيغور ياسين، من أهمية الإحصاءات التي تفيد بتسجيل زيادة هامة في معدلات الأجور في روسيا، مشيراً إلى أن العاملين في القطاعات ذات الصلة بالحرب في أوكرانيا أو الالتفاف على العقوبات الغربية هم أكثر المستفيدين من الوضع الراهن.
ويقول ياسين في حديث لـ"العربي الجديد": "حتى نكون دقيقين، يجب الإقرار بأن من لهم صلة بالحرب أو الالتفاف على العقوبات الغربية هم الذين يزدادون ثراء، بينما لا تزداد أجور العاملين في القطاعات الأخرى بالوتيرة ذاتها".
ويحذر من مغبة التداعيات طويلة الأجل للتفاوت الطبقي، مضيفاً: "على الرغم من الزيادة العامة للمداخيل، إلا أن التفاوت الطبقي سيفاقم حتماً التوترات الاجتماعية، مما قد يترجم إلى اندلاع احتجاجات في مرحلة لاحقة، ولا سيما على ضوء الثقة المفرطة لكثير من العاملين في قدراتهم المهنية في ظروف نقص العمالة في شتى قطاعات الاقتصاد حالياً".
لا عدالة في توزيع الثروة
من جهة أخرى، يشير كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، إلى أنه من الطبيعي أن الزيادة في الأجور يرافقها توسع الفجوة بين الطبقات، نظراً إلى ارتفاع أجور الشرائح العليا بوتيرة أعلى من غيرها.
ويقول أندرييف في حديث لـ"العربي الجديد": "صحيح أن متوسط دخول الأفراد على مستوى عموم البلاد يزداد، ولكن وتيرة زيادة الشرائح الأعلى أجراً تزداد بوتيرة أعلى من غيرها".
وقلل من أهمية إسهام أحداث العامين الماضيين في زيادة التفاوت المادي في روسيا، مضيفاً: "التفاوت المالي الكبير ترسخ في روسيا منذ تسعينيات القرن الماضي، حين اعتمد نموذج الرأسمالية الوحشية في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي، وخسر قسم من المواطنين مدخرات العمر نتيجة لانهيار العملة ومعدلات التضخم غير المسبوقة، بينما كوّن آخرون ثروات هائلة، بما في ذلك نتيجة لصفقات مشبوهة".
وأقر بأن الفساد لا يزال مستشرياً في روسيا مع تطور أساليبه، مثل تقاضي مسؤولين كبار عمولات مقابل إبرام عقود حكومية، مستشهداً في ذلك بحملة التطهير والاعتقالات التي تتعرض لها وزارة الدفاع الروسية، وشملت عدداً من المسؤولين الرفيعين بالوزارة.
من جهتها، شككت صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا الروسية في دقة الإحصاءات التي تظهر تراجعاً في عدد الفقراء، مشيرة إلى أنه حتى لا تعود الأسرة فقيرة رسمياً، يكفي لها أن تبلغ حصة كل فرد 15 ألف روبل ونيفاً شهرياً، مستشهدة بسابقة الانتصار إحصائياً على الفقر الرسمي بين المتقاعدين، حيث لم يعد هناك متقاعدون فقراء في روسيا من حيث المبدأ.
وأوضحت الصحيفة في عددها الصادر أمس الجمعة أن خط الفقر هو بالدرجة الأولى مؤشر إحصائي، إذ إنه في حال تخطاه دخل المواطن حتى بـ10 روبلات (0.11 دولار فقط)، فإنه يسقط تلقائياً من تعداد الفقراء، رغم أنه من البديهي أن ذلك لا يعني تحسناً جذرياً لمستوى معيشته.
وفي تلك الأثناء، تزخر شوارع موسكو وغيرها من المدن الروسية بالإعلانات المروجة للأجور المغرية التي يتقاضاها العسكريون المتعاقدون وإمكانية حصولهم على 5.2 ملايين روبل (حوالي 59 ألف دولار وفقاً لسعر الصرف الحالي) خلال العام الأول من التعاقد، شاملة الدفعة التي تصرف عند التعاقد والراتب الأساسي وكل البدلات، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام الذكور للقفز على سلم شرائح الدخل و"تحسين" الإحصاءات.