خرج وزير الاقتصاد البرازيلي، باولو جيديس، يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بتصريح مثير للجدل، قائلاً إن اقتصاد بلاده خرج رسمياً من الركود الذي واجهه بعد انتشار وباء كورونا، بعد تحقيقه معدل نمو بلغ 9.47% في الربع الثالث مقارنة بالربع الثاني، وأن التحدي الآن سيكون توسيع القدرة الإنتاجية.
وجاء التصريح استباقاً لإعلان المعهد الوطني للجغرافيا والإحصاء الأرقام الرسمية، وهو الأمر الذي أثار جدلاً كبيراً حول إمكانية تحقق ذلك فعلياً على أرض الواقع.
حقيقة لم تكن أزمة كورونا السبب الرئيس لأزمة الكساد التي يعانيها الاقتصاد البرازيلي، فمن المؤكد أن هذا الاقتصاد لم يتعافَ بصورة كلية من الأزمة الأخيرة التي تعرض لها في عامي 2016/2015، ومن المؤكد كذلك أن أزمته تعمقت بسبب تداعيات كورونا، والتي شاركت ما تبقى من رواسب الأزمة السابقة في تكوين عاصفة حادة تسببت في كساد كبير زاد من معاناة الاقتصاد المأزوم.
قبل بداية أزمة كورونا عانى هذا الاقتصاد من معدل مرتفع للبطالة بلغ 12.6%، علاوة على 5% بطالة مقنعة، كما شكل اقتصاد الظل غير الرسمي نحو 40% من إجمالي الناتج المحلي، وأدت هذه الظروف إلى تزايد عدم المساواة ووقوع المزيد من المواطنين تحت خط الفقر، في الوقت الذي استمرت فيه معاناة الطبقة المتوسطة بصورة كبيرة، واستمرت كذلك معاناة المواطنين الأكثر فقراً.
وزادت من حدة تلك التداعيات التخفيضات الحكومية المتعمدة لميزانية برنامج الإعانات بولسا فاميليا، وهو الأمر الذي أدى ليس فقط إلى انخفاض أعداد المستفيدين من البرنامج، ولكن أيضاً انخفاض مبالغ الدعم المحولة إليهم، كما أدى إلى زيادة الأعداد في قوائم الانتظار للأفراد الراغبين في الانضمام إلى البرنامج، وهو الأمر الذي هدد، طبقاً للعديد من الخبراء، بتفكيك السياسات الاجتماعية المطبقة بعد عام 2015، كما هدد بالمزيد من تفشي الفقر بين المواطنين.
ودخل الاقتصاد البرازيلي الذي سجل أعلى رقم للوفيات في العالم بعد الولايات المتحدة في حالة ركود اقتصادي بداية من الربع الثاني، ووفقاً للمعهد البرازيلي للجغرافيا والإحصاء، انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.7% في الربع الثاني، مقارنة بالربع نفسه من العام الماضي، مما يعكس تأثير الإغلاق الاقتصادي الواسع النطاق، الذي أضر بالاستهلاك والاستثمار وأثار موجة من إفلاس الشركات.
ويعد هذا الانخفاض القياسي في الربع الثاني أكبر من إجمالي الخسائر في أي من فترات الركود التسع التي ضربت البرازيل في الأربعين عاماً الماضية.
وتشير البيانات الإحصائية إلى التزايد المستمر في معدلات البطالة بين البرازيليين بعد تفشي كورونا، فبينما بلغ معدل البطالة في مايو/ أيار 10.1%، وهو أقل قليلاً مما كان عليه في شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط، ارتفع هذا المعدل ليبلغ 13.3% في سبتمبر/ أيلول، ثم ارتفع مرة أخرى إلى 14.4% في ديسمبر/ كانون الأول، وتشير هذه المعدلات إلى الآثار الكارثية للوباء على سوق العمل.
وبينما كانت البيانات تظهر تآكل أكثر من مليون وظيفة رسمية بين مارس/ آذار وإبريل/ نيسان، وزيادة أعداد العاطلين عن العمل بمقدار 4.9 ملايين عامل، وبنهاية مايو خفضت ساعات العمل والأجور لنحو 8.1 ملايين عامل بموجب برنامج خاص لسوق العمل الرسمي، كما أظهرت البيانات أنه بنهاية أغسطس الماضي أدت الأزمة إلى أن نسبة 83.5% من سوق العمل أصبحت في حالة من الضعف الشديد.
وتقدر تقارير المؤسسات الدولية أن ما لا يقل عن 26 مليون عامل (أكثر من ربع السكان النشطين اقتصادياً) لن يحصلوا على أي تعويض، سواء كان التأمين ضد البطالة، أو تعويض الدخل الأساسي الطارئ، ولن يستطيع العمال الانسحاب من صندوق ضمان مدة الخدمة، وأن كل ما تبقى لهم هو الإفلاس أو التسريح أو برنامج المساعدة الطارئة للعمال المسجلين رسمياً.
ورغم هذه الصورة القاتمة فإن العديد من الاقتصاديين يأملون في أن تعكس بيانات الربع الثاني أسوأ ما في الأزمة، لا سيما مع ظهور مجموعة من البيانات الجديدة لنشاط التصنيع والخدمات، بالإضافة إلى مبيعات التجزئة، والتي بناء عليها بدأ معظم المحللين في مراجعة التوقعات الأعلى لهذا العام، فبدلاً من الانكماش بنسبة 8% أو 9%، كما توقع البعض في ذروة الأزمة، فإن الإجماع بين الاقتصاديين هو أن الاقتصاد البرازيلي من المرجح الآن أن ينكمش بنسبة 5% أو 6% فقط هذا العام، مع توقعات بنسبة نمو 3% للعام المقبل.
وتبقى المشكلة الرئيسية لتحقق هذه المعدلات المتفائلة هي استمرار الدعم الحكومي، سواء للشركات أو الأفراد، والتوسع فيه تلافياً لما حدث خلال الفترة الماضية، وربما يبدو تحقق هذا الأمر ليس بعيداً، خاصة بعد إقالة وزير المالية السابق الذي أقدم على خطط التقشف السابقة، وبعد تضامن أعضاء الكونغرس مع الرئيس في الإقالة، الأمر الذي يشير إلى التوافق حول مزيد من الإنفاق الحكومي خلال فترة ما بعد كورونا.
تؤكد ذلك تصريحات الرئيس بولسونارو الأخيرة عن نيته تمديد برنامج المساعدات النقدية الطارئة للفقراء، على الرغم من خفض قيمتها من 100 دولار حالياً إلى 50 دولاراً، علاوة على إعداده حزمة إصلاح إداري تحاول خفض النفقات العامة وتلافي بعض العجز في الموازنة الذي تسببه برامج المساعدات وأنه سيقدمها قريباً إلى الكونغرس.
وربما ساهمت بيانات الربع الثالث وتوافر اللقاح مع تلك الجهود والنوايا، في النبرة المتفائلة لوزير المالية حول الخروج من حالة الركود، لا سيما بعد إعلانه عن أن العاملين في القطاع العام قبلوا تجميد الأجور في العام الجديد كوسيلة للمساعدة في التعامل مع التأثير الاقتصادي للوباء.
وبعيداً عن الأرقام والتصريحات يمكن القول إن هذا السيناريو الذي أعلنه وزير الاقتصاد متفائل بصورة كبيرة، لأن صدمة كورونا ستظل واقعياً خطراً مهيمناً خلال العام المقبل، حيث من المتوقع تنفيذ برنامج التطعيم بشكل تدريجي ليستفيد منه 25% من السكان بحلول نهاية النصف الأول من عام 2021.
علاوة على ذلك توجد توقعات منطقية باحتمالية أن تضرب الموجة الثانية للوباء الاقتصاد مرة أخرى في الأشهر المقبلة، لتقلص من الانتعاش القوي في الربع الثالث.
ورغم أن كل ذلك يبدو مقلقاً، إلا أن الخطر الأكبر على استمرارية حالة التفاؤل بشأن الخروج من الركود تكمن في القدرة على الاستمرار في تقديم الحزمة المالية الضخمة، والذي منح تحويلات نقدية لنحو 30% من السكان، وهي التي ساهمت إلى حد كبير في التخفيف من حجم الركود والتفاؤل حول مستقبله.
تهدد التكلفة المالية الهائلة استمرار تمديد التحفيز المالي الذي سيؤدي الى تزايد عجز الموازنة إلى 16% من الناتج المحلي الإجمالي، وتزايد الدين العام إلى 100% من هذا الناتج، لكن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في عام 2022 من المرجح أن يمدد الرئيس بولسونارو مؤقتاً بعض التحويلات النقدية بمستويات أكثر اعتدالاً، وأن يتخذ أيضاً بعض الإجراءات المالية لتخفيف مخاوف السوق بشأن الاستدامة المالية، وتقليل تكاليف الاقتراض والضغط على العملة الوطنية.
إذا، فالخروج من حال الركود الاقتصادي مشروط باستمرار الدعم الحكومي، وفي ظل تزايد الدين العام وارتفاع عائدات السندات الحكومية طويلة الأجل، من المؤكد أن الموارد المالية العامة السيئة في البرازيل ستظل تشكل خطراً كبيراً في السنوات المقبلة وستضر بإمكانات النمو الاقتصادي، وستضع تصريحات وزير الاقتصاد حول خروج بلاده من الركود موضع الاختبار.