سجلت أسعار السلع الغذائية والوقود انفلاتاً حاداً في سورية خلال العام 2022، في أعقاب تهاوي سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، الذي وصل إلى 7300 ليرة، وسط مخاوف كبيرة من التداعيات، في بلد يشهد تفاقماً لمعدلات الفقر.
هذا الانفلات دفع السوريين لوصف العام 2022 بأنه الأسوأ معيشياً منذ محاولات نظام بشار الأسد وأد حلمهم بالدولة والعيش الكريم عام 2011، حيث تهاوى سعر صرف الليرة إلى المستوى الأسوأ بتاريخ البلاد، ونفدت حوامل الطاقة من الأسواق وارتفعت الأسعار خلال العام بأكثر من 150%، من دون تحسين الدخول.
"لعبة الليرة"
وصف أكثر من باحث متخصص تحدث إليهم "العربي الجديد"، تهاوي العملة السورية بـ"اللعبة"، فالمحلل المالي علي الشامي يرى أنّ قائد اللعبة هو مصرف سورية المركزي، كما أن لديه لاعبين أبرزهم شركات الصيرفة، معتبراً أنّ "هذه اللعبة تعود بالفائدة على نظام بشار الأسد وتمده بسبل الاستمرار، لأنّ المصرف المركزي أكبر المضاربين بالسوق".
ويرى الاقتصادي عبد الناصر الجاسم أنّ "اللعبة تتجلّى بتعدد أسعار الصرف التي تصل إلى أربعة"، مشيراً إلى "دور الحوالات الخارجية باللعبة التي نرى أبشع صورها اليوم، عبر ابتزاز التجار وإلزامهم بدفع ثمن الواردات مرتين".
ولم يبتعد الاقتصادي حسين جميل كثيراً عن ذلك التحليل، وأضاف أنّ "هذه اللعبة عرّت النظام، وقلبت السحر على الساحر" حسب قوله، كما لم يستبعد أن يبدأ تهاوي الدولة وإفلاس المؤسسات، من بوابة الاقتصاد وتحديداً من الليرة السورية.
ويجمع هؤلاء المحللون على أنّ العملة السورية، وجراء "كثرة اللعب بها وعليها" فقدت قيمتها ولم تعد مقبولة للتعامل خارج حدود المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، لأنّ عوامل استقرار النقد، بحسب تصريح علي الشامي لـ"العربي الجديد"، "جميعها تلاشت في سورية، وربما أهمها وأكثرها دعماً للعملة، هو نفاد الاحتياطي من المصرف المركزي بدمشق".
وبلغ الاحتياطي في مصرف سورية المركزي، عام 2011، نحو 18 مليار دولار، قبل أن يتراجع عام 2016، بحسب البنك الدولي، إلى 700 مليون دولار. وتنفد الاحتياطيات منذ عامين "إلا من بعض الإتاوات التي يفرضها النظام بالدولار على رجال الأعمال"، بحسب الشامي.
بدوره، يرى الاقتصادي عبد الناصر الجاسم أنّ "انقلاب الميزان التجاري" هو أهم أسباب تعرية الليرة، فبعدما كان النفط، على سبيل المثال، يعود على الخزينة بعائدات تصدير تبلغ نحو 150 ألف برميل نفط يومياً، تحوّل إلى أكثر مستنزف للقطع الأجنبي، مضيفاً لـ"العربي الجديد" أنّ "الأمر ينطبق كذلك على المحاصيل الزراعية والمواد الأولية، الأمر الذي أوقع التجارة الخارجية بعجز زاد عن 6 مليارات يورو عام 2021".
بدوره، بسّط جميل الأمر بقوله إنّ "القصة بالنهاية عرض وطلب، فالليرة التي تطبع في موسكو من دون تغطية وإنتاج ومعادلات، أغرقت السوق، وذلك في وقت تزداد تهاوياً، ما دفع، حتى صغار المكتنزين لهجرتها إلى الذهب والعملات الرئيسية"، متوقعاً أن "يستمر الانهيار عام 2023 في ظل زيادة إنغلاق أي أفق واستمرار تدمير البنى الاقتصادية".
عام الخسائر
هوت العملة السورية، نهاية العام، إلى أدنى مستوى على الإطلاق بعد تسجيل الدولار نحو 7300 ليرة، بعدما بدأت العام بنحو 3500 ليرة للدولار الواحد، في حين لم يزل مصرف سورية المركزي يثبّت السعر الذي رفعه في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2022، من 2814 إلى 3015 ليرة للدولار، ليبدأ بعد ذاك مشوار التهاوي السريع، إثر استشعار المتعاملين انسحاب "المركزي" من دعم الليرة وانقياده للسوق، بعد التوقف عن التدخل المباشر.
ويقول الاقتصادي عبد الناصر الجاسم إنّ "عام 2022 الذي شهد تهاوي سعر الليرة، هو العام الأكثر استيراداً للقمح والمشتقات النفطية، ما يعني تبديد القطع الأجنبي الذي كان قليلاً بالأساس في السوق والمصرف المركزي".
ويضيف الجاسم لـ"العربي الجديد" أنه مقابل ذلك "لم تكن هناك مصادر للنقد الأجنبي مثل الصادرات أو السياحة تعادل فاقد العملات الأجنبية بالسوق، الأمر الذي أخلّ بالمعروض النقدي بواقع اكتفاء السلطة النقدية بالمراقبة وعدم التدخل، إلا من خلال قرارات القمع والملاحقة والتي تزيد مخاوف المكتنزين وتزيد العامل النفسي" الذي رآه الجاسم "حاسماً" ولا سيما في مراحل الانهيار.
بدوره، يرى حسين جميل أنّ "عوامل كثيرة اجتمعت عام 2022 منها سياسية واقتصادية محلية وحتى دولية"، مشيراً إلى دور ما نشرته وكالة أسوشييتد برس حول "إفلاس مصرف سورية المركزي، خلال شهر ديسمبر الجاري، وعدم قدرة نظام الأسد على تسديد الأجور خلال الأشهر المقبلة"، مستدلاً بأنّ "قفزات التهاوي الكبيرة جاءت بعد أنباء الإفلاس".
ويذهب المحلل علي الشامي إلى ما وصفه "غياب مولدات القطع الأجنبي، من عدمية الاستثمارات الأجنبية، بالتوازي مع هروب الاستثمارات ورجال الأعمال وهجرة المنشآت، تزامناً مع زيادة المستوردات وتراجع الصادرات".
ويلفت الشامي إلى دور ما أسماه "انسحاب حلفاء نظام الأسد من تمويله، سواء توقُّف خطوط الائتمان الإيرانية التي سندت المستوردات خلال السنوات الماضية، أو ما قيل عن امتناع روسيا عن إقراض الأسد، بل والمطالبة بضمانات القروض السابقة"، لأنّ ذلك، بحسب الشامي، "يعني مزيداً من تعاظم الأثر النفسي وبالتالي زيادة تهاوي سعر العملة".
ارتفاع الأسعار
يضع سوريون سبب رفع حكومة بشار الأسد، أخيراً، أسعار المشتقات النفطية، بمقدمة الأسباب التي زادت ارتفاع الأسعار وساهمت بتهاوي سعر الصرف بنهاية عام 2022، معتبرين أنّ زيادة تكاليف الإنتاج الزراعي والصناعي، بعد رفع مكوّن الطاقة، ألزمت المنتجين برفع أسعار المنتج النهائي.
وأشار عضو لجنة تجار ومصدري الخضر والفواكه في دمشق، محمد العقاد، في تصريحات صحافية، أمس الثلاثاء، إلى أنّ أجرة نقل السيارة المحملة بالحمضيات والفواكه من الساحل إلى دمشق، وصلت إلى 1.2 مليون ليرة، في وقت لم يزد على 400 ألف ليرة قبل شهرين، نتيجة شراء المازوت من السوق السوداء بسعر تجاوز 10 آلاف ليرة سورية لليتر الواحد وهي بازدياد مستمر.
ولفت إلى أنّ هذه التكاليف بكل تأكيد ستضاف إلى سعر البضاعة، حيث أصبحت تكلفة نقل الكيلو الواحد منها تصل إلى 200 ليرة سورية وكل سيارة فيها 7 أطنان.
وفاقم استمرار شح المحروقات، وارتفاع سعرها في السوق الحر إلى ضعفه في السوق الرسمي، بزيادة الطلب والأسعار، لتبلغ نسبة ارتفاع الأسعار خلال شهر ديسمبر الجاري فقط، أكثر من 30%، بحسب المحلل علي الشامي، وتزيد نسبة ارتفاع الأسعار في السوق السورية عن 150% خلال العام.
ويلفت الشامي إلى زيادة ملامح الركود في السوق السورية بسبب تراجع القدرة الشرائية، لكن ذلك لم يكسر الأسعار برأيه، لأنّ العرض بالمقابل تراجع كثيراً، سواء الإنتاج المحلي أو المستوردات الخارجية، مشيراً إلى وصول سعر كيلو السكر إلى نحو 6500 ليرة، والأرز 6300 ليرة والجيد منه بنحو 17 ألف ليرة، وارتفاع أسعار مشتقات الألبان بأكثر من 40% خلال الشهر الأخير.
ونوّه بالتراجع الطفيف بأسعار الخضر والفواكه، بسبب تراجع التصدير جراء التعقيد الحكومي وشح المحروقات، مضيفاً أنّ الأسعار لم تزل أعلى من قدرة المستهلك الشرائية، فسعر كيلو البندورة نحو 2500 ليرة والبطاطا 2000 ليرة والكوسا 3500 ليرة، لتبقى أسعار اللحوم بخانة الأماني للسوريين، بعدما زاد سعر كيلو لحم الخروف عن 50 ألف ليرة، وشرحات الدجاج عن 25 ألف ليرة.
وزادت أيام نهاية العام من أسعار الفواكه في السوق السورية، فبحسب موقع "بزنس2 بزنس" المحلي، سجل سعر الموز 7600 ليرة، والفراولة 5500 ليرة، والتفاح 2500 ليرة، والرمان 3500 ليرة سورية.
فجوة الدخل والإنفاق
ويرى الجاسم أنّ تهاوي سعر صرف الليرة "ليس كل المشكلة، فانخفاض الدخل أيضاً عامل مهم، حيث إنّ متوسط الأجور لا يزيد عن 100 ألف ليرة في حين تصل المصاريف الشهرية للأسرة، إلى نحو 3 ملايين ليرة، الأمر الذي زاد نسبة الفقراء إلى أكثر من 90% من السكان"، موضحاً أنّ التحويلات الخارجية "هي الدخل الوحيد الذي يُبقي السوريين على قيد الحياة".
في المقابل، يشير أمين الشؤون الاقتصادية في الاتحاد العام لنقابات العمال، طلال عليوي، في تقرير رسمي صدر قبل أيام، إلى أنّ هناك عدة عوامل أدّت إلى رفع مؤشر تكاليف الحياة إلى أكثر من ثمانين ضعفاً خلال سنوات الحرب، إذ باتت تحتاج الأسرة المكونة من 5 أشخاص إلى حوالى 1.5 إلى مليوني ليرة لسدّ نفقات معيشتها، في حين تراجعت القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود بنسبة تزيد عن 90% بسبب الارتفاعات الكبيرة في الأسعار.
أمل مفقود
يخيّم فقدان الأمل بأي انفراج على السوريين، ونقلت صحيفة "البعث" الناطقة باسم الحزب الحاكم بدمشق، إحباطات السوريين عبر سؤالهم "ماذا ينتظرنا في العام الجديد"، معتبرة أنّ "كل المؤشرات التي تتحفنا بها الجهات العامة والخاصة تبشرنا بأنّ ما ينتظرنا في عام 2023 ليس كما نشتهي".
وقالت الصحيفة إنّ "العام الجديد سيكون في غاية القسوة والإحباط، طالما الشغل الشاغل لتلك الجهات (لم تسمها)، على مدار الساعة، رفع أسعار المحروقات وجميع السلع الغذائية من جهة، وتخفيض القدرة الشرائية للعاملين بأجر من جهة ثانية"، مبشرة بأنّ "عام 2022، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول لخلفه عام 2023: أسلّمك أمانة ملايين العاملين بأجر فلا ترحمهم".
من جهته، يتوقع الشامي أن يشهد عام 2023 في سورية، انهيارات وإفلاس مؤسسات مالية وإنتاجية، مختصراً أسباب بقاء عجلة الاقتصاد بأبطء حركتها، بأنها "تعود إلى قرار سياسي دولي، وإلا وفق مؤشرات الاقتصاد والواقع، فإنّ سورية لا تمتلك أي مقوّم استمرار".
وأشار في الوقت عينه إلى "تسريع حالات تعرّي نظام الأسد من خلال عودة خروج احتجاجات الجوعى في سورية"، متوقعاً تصاعد "انتفاضة السوريين" خلال العام الجديد.