يواجه الاقتصاد الصيني الذي ضربته الفيضانات وخسارة بورصات الأسهم مجموعة من التحديات خلال الأعوام المقبلة، على رأسها ارتفاع إجمالي الديون الخاصة والعامة إلى نحو 40 تريليون دولار، وتقلص القوى العاملة وسط تزايد كبار السن في المجتمع، وضغوط الحزب الشيوعي الذي يضيق الخناق على المليارديرات وشركات التقنية في البلاد.
وسط هذه التحديات ينصح العديد من الخبراء بتفادي الاستثمار في أسهم الشركات الصينية على المدى القصير ويحذرون من تكبد خسائر باهظة في حال المراهنة على تحقيق أرباح كبرى من الأسهم الهابطة مثلما كان يحدث في الماضي.
ووفق خبراء في مركز الأبحاث العالمي "بي سي إيه" الذي يوجد مقره في مونتريال بكندا في تقرير يوم الأربعاء، فإن على المستثمرين "تفادي الاستثمار في الأسهم الصينية خلال فترة تتراوح بين 6 إلى 12 شهراً". وكانت هيئة أسواق المال الصينية قد أجبرت على تعليق إجراءات الإصلاح المالي بعد الهبوط الحاد الذي شهدته مؤشرات الأسهم في بداية الأسبوع الماضي.
في هذا الشأن، قال كبير خبراء الاستثمار بمركز "بي سي إيه"، سيما جينغ: "حتى في حال تخفيف السلطات الصينية إجراءات الاصلاح المالي ودعم النمو الاقتصادي، فإن الهبوط في أسواق المال الصينية ربما يستمر لفترة قبل بلوغ المؤشرات الرئيسية قاع الانحدار وتبدأ رحلة تعافٍ". ولكن على الرغم من الاضطراب في سوق الأسهم الصينية فإن سوق السندات السيادية حافظ على استقراره حتى الآن مستفيداً من مؤشرات الاقتصاد الكلي.
وحسب بيانات بلومبيرغ خسرت أسواق الأسهم الصينية في البورصات الرئيسية الثلاث خلال يوليو/ تموز المنصرم نحو 434 مليار دولار، بينما خسرت بورصة هونغ كونغ وحدها نحو 752 مليار دولار لتبلغ إجمالي خسائر أسواق المال الصينية نحو 1.2 تريليون دولار في شهر واحد. وهذه الخسائر تجعل من هزة أسواق المال الصينية الكبرى أكبر من تلك التي حدثت في عام 2016 الذي شهدت فيه الأسهم أكبر الخسائر وأدت إلى هروب الثروات من السوق المحلية.
ولاحظ خبراء أن الأداء المضطرب للأسهم الصينية يتواصل متأرجحاً بين الصعود والهبوط، فبينما ارتفعت الأسهم يومي الأربعاء والخميس من الأسبوع الماضي، تراجعت يوم الجمعة، كما شهدت أسهم شركات الألعاب الصينية تراجعاً بنسبة 1.4% يوم الثلاثاء.
ويرى محللون أن الحكومة الصينية التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي تتبنى استراتيجية جديدة تستهدف إنشاء "الدولة الاشتراكية العظمى" بحلول عام 2049 وبالتالي تعكف على اصلاحات مالية للتوازن الاقتصادي بعد النمو السريع في تراكم الثروات الخاصة، والتوسع الهائل في أسواق المال الذي خلق فجوة كبرى في الدخول بين المواطن العادي وأصحاب الشركات وحملة الأسهم. وتوسع حجم رأس مال السوق الصيني خلال العام الجاري إلى أكثر من 13 تريليون دولار. كما بلغ عدد المليارديرات 689 مليارديراً وتضخمت ثرواتهم لتنافس الدولة على النفوذ في السوق، خاصة في قطاع شركات التقنية، وهو ما خلق معركة داخل الصين بين أصحاب الثروات وأصحاب النفوذ من قيادات الحزب الشيوعي وبين الدخول المرتفعة في المدن وبين الفقر المتفشي في الريف.
وعلى صعيد النمو الاقتصادي، تعد الصين أكبر دولة مصدرة للسلع المصنعة وصاحبة أكبر رصيد أجنبي وثاني أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة. ورغم أن الصين حققت معدل نمو تاريخيا ولأطول فترة زمنية منذ أزمة المال العالمية وبنسبة بلغت في المتوسط 9.0%، حسب بيانات معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية في واشنطن، فإن الاقتصاد الصيني يعاني من مجموعة من التحديات التي تربك صناع السياسة الاقتصادية والمالية بالبلاد.
من بين هذه التحديات ارتفاع الدين العام وزيادة نسبة المسنين في المجتمع مقارنة بالقوى العاملة. كما يواجه صناع الثروة وعلى رأسهم أصحاب شركات التقنية هجمة شرسة من قادة الحزب الشيوعي الذين يحكمون البلاد عبر قبضة حديدية وغاضبون من تسليط الأضواء على المليارديرات الجدد.
وتستدعي هذه الاستراتيجية الاشتراكية معالجة الفجوة الواسعة في الدخول، وإصلاح نظام الضمان الاجتماعي للمواطن البسيط في البلاد، وإجراء خفض كبير في عدد الفقراء. وبالتالي فإن الإصلاحات الأخيرة التي نفذتها الحكومة الصينية في قطاع أسواق المال لم تحدث فقط لمعالجة التمدد الفوضوي في رأس المال وتراكم الثروات، ولكن كذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية في الدخول، وضبط أداء القطاع الخاص الشره في بلد متعدد الأعراق والقوميات، وربما يواجه ثورات تفوق قدرة القبضة الحديدية للحزب الشيوعي في المستقبل.
ويشير اقتصاديون إلى أن الاقتصاد الصيني اعتمد في النمو التاريخي الكبير والمتواصل على الإنفاق الرأسمالي الكثيف والتوسع في الاقتراض. ويشير معهد التمويل الدولي الذي يوجد مقره في واشنطن في دراسة حديثة إلى أن الاقتصاد الصيني يعاني من أزمة ارتفاع الديون العامة، وارتفاع ديون القطاع الخاص والديون الشخصية. ويقول المعهد في دراسته، إن بيانات الحكومة الصينية تضع حجم الدين السيادي في البلاد عند نسبة 66.8% من الناتج المحلي في العام الماضي 2020، ولكن حجم الدين السيادي الفعلي يفوق كثيراً هذه النسبة.
ويقدر المعهد في تقريره، أن ديون الشركات الصينية والديون الشخصية والديون العامة تفوق نسبة 303% من إجمالي الناتج. وبحساب تقديرات البنك الدولي لحجم الاقتصاد الصيني البالغ 13.28 تريليون دولار، فإن إجمالي الديون الصينية الخاصة والعامة والشخصية تفوق 40 تريليون دولار. من جانبه يتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع حجم الدين السيادي الصيني إلى 69.6% من إجمالي الناتج المحلي في نهاية العام الجاري وإلى 73.7% في العام المقبل 2022.
ومن بين إيجابيات الاقتصاد الصيني، فإن بلاد التنين تتمتع بفائض حساب كبير ورصيد أجنبي ضخم من العملات الصعبة. وهذا العائد الضخم من الدولارات الذي يفوق ثلاثة تريليونات سيدعم سعر صرف العملة الوطنية، اليوان، وبالتالي سيرفع الاستثمار الأجنبي في سندات الدين في البلاد. وكان معهد التمويل الدولي قد قال في تقرير صدر الشهر الماضي، إن سوق السندات الصينية يشهد انتعاشاً غير مسبوق، وإن حجم التدفقات الأجنبية التي ربما سيتمكن من جذبها سنوياً قد ترتفع إلى 400 مليار دولار.
وقدر المعهد، أن صفقات البنوك المركزية العالمية مسؤولة عن 60% من التدفقات الأجنبية على السندات الحكومية الصينية في الربع الأول من العام الجاري، وهو ما يعني أن هنالك ثقة من قبل الحكومات العالمية في مستقبل إدارة الدولة للعجز في الميزانية ومستقبل فائض الحساب الجاري في البلاد.
يذكر أن مسحاً أصدره منتدى "المؤسسات النقدية والمالية الرسمية" كشف أن اليوان الصيني بصدد التحول إلى مكون رئيسي من مكونات النظام المالي العالمي، وسط توجه ثلث البنوك المركزية لإضافته إلى احتياطياتها من النقد الأجنبي.
ولكن أسواق الصين الخارجية ومستقبل تجارتها يواجه تحدي التوتر التجاري مع الولايات المتحدة والمعسكر الرأسمالي الغربي. واعتمدت الصين في النمو السريع خلال العقدين الماضيين على نمو الصادرات، خاصة إلى أسواق الولايات المتحدة وأوروبا. وبالتالي فإن زيادة التوتر التجاري مع الولايات المتحدة سيكون له تداعيات خطيرة على مستقبل النمو الاقتصادي. كما أن القوة الشرائية بالصين كذلك ستكون لها تداعيات سالبة في حال تواصل زيادة نسبة كبار السن من إجمالي عدد سكان البلاد المقدر عددهم بنحو مليار و445 مليون نسمة. وتعمل الصين على تلافي تناقص عدد الشباب في العديد من أقاليم البلاد عبر تقديم حوافز للأسر التي تنجب أطفالا. ولا تنعكس أزمة الشباب فقط على توفير القوة العاملة، لكن كذلك فإنّ الإنفاق على طبقة كبار السن يرهق ميزانية البلاد في المستقبل.