استيراد ألف سيارة إسعاف... أين الصناعة المصرية؟

05 نوفمبر 2021
عامل مصري في مصتع "بي أم دبليو" بمدينة 6 أكتوبر (Getty)
+ الخط -

بعد الحديث عن مشروع إنتاج السيارة المصرية، ودخول مصر لمرحلة إنتاج السيارة الكهربائية، أتى تصرف الحكومة بما يظهر الأوضاع على غير ما يرام، فقد نقلت وسائل الإعلام يوم 28 سبتمبر/أيلول الماضي، أن هالة زايد وزيرة الصحة، وعوض تاج الدين مستشار السيسي ذهبا إلى ألمانيا، لإتمام التعاقد على استيراد ألف سيارة إسعاف، وألف عيادة طبية متنقلة.

لم تكشف وسائل الإعلام قيمة الصفقة، ولا موعد التسليم، لكنها أكدت أن التعاقد تم مع شركة مرسيدس الألمانية، وأن السيارات التي سيتم استيرادها والعيادات الطبية المتنقلة تخص مشروع كرامة. والخبر حسبما هو منشور يثير تساؤلات، على رأسها أين الاستعانة بالصناعة المحلية، سواء كانت شركات عامة أو خاصة، فهناك عدة شركات أجنبية دولية تقوم بنشاط تجميع السيارات في مصر.

نشر الخبر، دون أن يتضمن قيمة الصفقة، يعد أحد سمات غياب الشفافية، فالصفقة تتم مع شركة عالمية، وتمثل احتياجا لأحد المشروعات التي تصفها الحكومة بالقومية، وهو مشروع كرامة، فمن حق دافع الضرائب الذي يمول هذه الصفقات، أن يعلم تفاصيل مالية بشكل أفضل، ولماذا تم اختيار هذه الشركة على وجه التحديد؟

الصفقة ليست صغيرة، وما يترتب عليها، ستتحمل تكلفته الموازنة العامة للدولة، فهل تم التفكير في البدائل الأخرى، وإذا ما كان الاستيراد هو القرار الأفضل؟

فسيارات الإسعاف والعيادة المتنقلة ليست تكنولوجيا معقدة، ولكن يمكن توفيرها من دول عدة، قد تكون أفضل من حيث السعر، وتوفر في نفس الوقت المواصفات المطلوبة لسلامة أداء السيارات والعيادات والمهمات التي جلبت من أجلها.

وتوفير مثل هذا العقد مع شركة تعمل في السوق المصري، حتى لو كانت أجنبية، من شأنه أن يحقق عدة مزايا اقتصادية واجتماعية لمصر، منها توفير النقد الأجنبي المدفوع لشركة مرسيدس، حيث التعاقد تم في المانيا، والدفع سيكون بالدولار أو اليورو. بينما التعاقد مع شركة مصرية، سيكون بالعملة المحلية، وبما يخفف من التزامات الحكومة بتوفير النقد الأجنبي.

الأمر الثاني، أن قيام شركة تعمل في السوق المحلي بتنفيذ هذه الصفقة في مصر، من شأنه أن يساعد على استخدام بعض المكونات المحلية، كما أنه سيحقق حالة من التشغيل لطاقة الإنتاج بالشركة المتعاقد معها، لتمثل هذه الصفقة زيادة في الناتج المحلي الإجمالي.
ولن يتوقف التعاقد بين وزارة الصحة وشركة مرسيدس لتوفير سيارات الإسعاف والعيادات المتنقلة فقط، ولكن الأمر سيستمر طوال فترة وجود هذه السيارات والعيادات في الخدمة، من خلال تقديم قطع الغيار، والصيانة، وهو ما يعني، استمرار نزيف خروج النقد الأجنبي من مصر.

خلل صناعي وتجاري

المطلع على موقع الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة في مصر، لا يتخيل أبدًا أن تمر هذه الصفقة إلى السوق الخارجي، حيث يستعرض الموقع، المبادرات الحكومية لصناعة السيارات، والإمكانيات التي تتمتع بها مصر، وكذلك الشركات الأجنبية العاملة في مصر في هذا المجال وهي نحو 7 شركات، منها (نيسان، وجنرال موتورز، جي بي بولو، فيات كرايسلر).

السلوك الذي تصرفت به الحكومة المصرية، في هذه الصفقة، وفي غيرها من الصفقات، المرتبطة بالعدد والآلات، يعكس بشكل واضح، مدى غياب القاعدة الصناعية عن مصر، وما يمثله ذلك من هشاشة الناتج المحلي الإجمالي، والقيمة المضافة المتواضعة للقطاع الإنتاجي بشكل عام، والقطاع الصناعي بشكل خاص، وهو ما تعكسه الأرقام التي تتيحها الهيئة العامة للاستثمار على موقعها.

وتفيد الأرقام، بأن هناك فجوة كبيرة بين الصادرات والواردات لسيارات الركوب في مصر، ففي عام 2015/2016 بلغت صادرات مصر من السيارات 181.3 مليون دولار، ووارداتها 1506.8 مليون دولار، وهو ما يعني أن الفجوة تصل إلى ما يزيد عن مليار دولار.

وفي عام 2019/2020، كان الأداء في صادرات وواردات سيارات الركوب ليس في صالح الاقتصاد المصري، حيث تراجعت الصادرات مقارنة بعام 2015/2016، وزادت الواردات من السيارات لنفس العام، حيث بلغت الصادرات نحو 71.6 مليون دولار، والواردات 1809 مليون دولار، وهو ما يعني أن الفجوة بين الصادرات والواردات اتسعت لصالح الاستيراد بنحو ما يزيد عن 1.7 مليار دولار، فهل أتى تصرف الحكومة باستيراد سيارات الإسعاف والعيادات المتنقلة، ليزيد من عمق الفجوة بين صادرات وواردات السيارات، لصالح الصناعات الأجنبية؟

صفقة كاشفة

طبيعة صفقة استيراد سيارات الإسعاف والعيادات المتنقلة من مرسيدس، توضح عمق مشكلة التنمية في مصر، رغم الحديث عن نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي، وزيادة قيمة الناتج المحلي الإجمالي، أو وجود زيادة في معدلات نمو الناتج.
فكون زيادة الناتج، ومعدلات نموه متحققة من مشروعات الطرق والجسور، أو مشروعات الإسكان والتشييد، أو بعض مرافق البنية التحتية، فإنه مظهر ضعف وليس مظهر قوة، خاصة أن هيكل الصادرات والواردات المصرية، لا يزال يعبر عن ضعف الإداء الإنتاجي للاقتصاد المصري.

فالاطلاع على بيانات البنك المركزي المصري، من خلال تقريره السنوي لعام 2019/2020، يتبين أن السلع الوسيطة تمثل 36.5% من إجمالي الواردات، والسلع الاستثمارية 16.8% والسلع الاستهلاكية تمثل الجانب الأكبر بعد السلع الوسيطة بنسبة 31.3%، والمواد الخام 12.6%.

أما هيكل الصادرات السلعية لنفس العام، فنجد أن الصادرات من النفط والغاز تمثل 32.2% من إجمالي الصادرات السلعية، بينما الصادرات السلعية غير النفطية، تمثل 67.8%. فضلًا عن أن الصادرات السلعية غير النفطية، تغلب عليها الصناعات التقليدية، والمواد الخام، أو السلع الوسيطة.

المخرج

لا أظن أن أحدًا يمكنه أن يضيف جديدًا، بالنسبة للاقتصاد المصري، في ما يتعلق بتطوير أدائه، خاصة في ظل الزيادة المستمرة للسكان لهذا البلد، وكذلك التحديات العديدة التي يواجهها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وكذلك الدور المنوط بمصر كقوة إقليمية.

فثمة ضرورة للأخذ بتوصيات العديد من الدراسات الاقتصادية، بالجامعات ومراكز البحوث، والتي تتضمن ضرورة زيادة مساهمة الصناعة المصرية في الناتج المحلي الإجمالي، خاصة تلك الصناعات التي تتضمن قيمة مضافة عالية، وكذلك ضرورة ربط الصناعة بالجامعات وتوجيه البحوث والدراسات لمعالجة مشكلات وقضايا تطوير الصناعة، فمن غير المقبول أن تظل مصر طوال هذه السنوات، تعتمد على استيراد خطوط الإنتاج وقطع الغيار من الخارج، رغم أنها عرفت الصناعة قبل العديد من الدول الصاعدة.

آن لمصر أن تمتلك تعليمًا فنيًا متميزًا، يستوعب أبناءها من الداخلين الجدد لسوق العمل، بحيث تتوفر اليد العاملة الماهرة، ذات التدريب والكفاءة، التي تتطلبها الصناعة بشكل رئيس. فصفقة استيراد سيارات الإسعاف والعيادات المتنقلة، لن تكون الأخيرة، ولكن سيتبعها صفقات، بنفس الطريقة، تعتمد الحل السهل وهو الاستيراد، بينما الطريق الصحيح، وإن كان يتطلب المزيد من الجهد، هو أن تعتمد مصر بشكل كبير على تصنيع احتياجاتها، فضلًا عن مشاركة الصناعة المصرية في حركة الصادرات السلعية الدولية، ففي الوقت الذي تصل فيه قيمة الصادرات السلعية على مستوى العالم لنحو 19 تريليون دولار، نجد أن الصادرات السلعية المصرية لا تتجاوز سقف 30 مليار دولار، بما فيها الصادرات البترولية.

المساهمون