مع تداعيات معدل التضخم الأعلى في أكثر من أربعة عقود على كل نواحي النشاط الاقتصادي في أميركا، وتوقع المحللين مواصلة بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) تطبيق سياساته التشددية، وفي مقدمتها إكمال رفع معدلات الفائدة على أمواله، تزايد اندفاع المستثمرين نحو شراء العملة الأميركية والأصول الدولارية، ما تسبب في ارتفاعات قياسية في قيمة الورقة الخضراء مقابل العملات الأخرى، وعلى رأسها اليورو، الذي تراجعت قيمته بصورة كبيرة.
وبذلك يبدأ كثيرون في التساؤل إذا ما كان الوقت الحالي هو الأنسب لشرائه، أم أن تحركات العملة الأوروبية خلال الفترة المقبلة ستكون باتجاه المزيد من الانخفاض خاصة مع تردد البنك المركزي الأوربي في رفع سعر الفائدة، والأزمات الاقتصادية العنيفة التي تمر بها القاهرة خاصة الغذاء والوقود.
وخلال الأسبوع الماضي، تراجع سعر اليورو ليصل إلى أقل من دولار لأول مرة منذ ما يقرب من عشرين عاماً، وتجاوز الدولار 139 يناً يابانياً لأول مرة أيضاً منذ عام 1998، بعد أن أظهرت بيانات مكتب العمل الأميركي ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين، المقياس المفضل للبنك الفيدرالي لقياس معدل التضخم الأميركي، ليسجل 9.1% في شهر يونيو / حزيران الماضي.
واعتبر مراقبون ذلك مؤشراً يؤكد توجه البنك لرفع معدل الفائدة، خلال اجتماعه القادم يوم 27 يوليو / تموز الجاري، بخمسٍ وسبعين نقطة أساس، إن لم يكن أكثر. وخلال الفترة التي مضت من العام الحالي، ارتفع الدولار أمام مؤشر يضم مجموعة من عملات أكبر اقتصادات العالم بأكثر من سبعة عشر بالمائة.
وباتت كل الاحتمالات مفتوحة سواء انخفاض سعر اليورو أو استعادة بعض خسائره، إذ زادت العملة الأوربية أمس الإثنين، مستفيدة من تراجع الدولار بعد أن أشار عدد من مسؤولي مجلس الاحتياطي الاتحادي إلى أنهم لا يفضلون زيادة وتيرة رفع سعر الفائدة.
وصباح أمس، ارتفع اليورو، 0.5 بالمئة إلى 1.0149 دولار، بعد أن انخفض إلى ما دون مستوى التعادل الأسبوع الماضي.
الحرب وأوروبا
اعتُبرت الدول الأوروبية في منطقة يورو الأكثر تضرراً من الحرب الجارية حالياً في أوكرانيا، بعد ارتفاع أسعار منتجات الطاقة ووصولها لمستويات قياسية، بالإضافة إلى تراجع قدرة تلك الدول على شراء ما تحتاج من الغاز والنفط الروسيين، في إطار أضخم سلسلة من العقوبات الاقتصادية يتم فرضها على أي بلد في العالم.
وتسببت تلك العوامل في ارتفاع فاتورة استيراد منتجات الطاقة للدول الأوروبية، كونها تعتمد على روسيا في استيراد أكثر من أربعين بالمائة من احتياجاتها منها، في وقتٍ لم تكمل تلك الاقتصادات تعافيها من تبعات جائحة كورونا.
وخلال العام الأخير، الذي شهد رفع البنك الفيدرالي معدل الفائدة على أمواله بمائة وخمسين نقطة أساس، وتباطؤ البنك المركزي الأوروبي في اتخاذ خطوات مماثلة، مكتفياً برفع خمسٍ وعشرين نقطة أساس فقط حتى الآن، فقدت العملة الأوروبية ما يقرب من 17% من قيمتها مقابل الدولار.
ولا يتوقع أغلب المستثمرين استعادة العملة الأوروبية للكثير مما فقدته حالياً، خاصة مع توقعات رفع الفائدة الأميركية 0.75% قبل نهاية الشهر الجاري، بينما تشير أغلب التوقعات إلى رفع الفائدة الأوروبية بما لا يتجاوز ربع بالمائة، ما يعني استمرار اتساع فارق الفائدة بين الدولار واليورو خلال الأسابيع القادمة.
وقبل الرفع الأخير، لم يرفع البنك المركزي الأوروبي معدل الفائدة على اليورو منذ عام 2011، إلا أنه اضطر للتحرك بعد كل تلك السنوات مع تجاوز معدل التضخم في أوروبا مستوى 8.6%.
استمرار تراجع اليورو
وقبل أيام، توقع بنك دويتشه، تراجع اليورو إلى مستوى 0.95 – 0.97 مقابل الدولار إذا انزلق الاقتصادان الأميركي والأوروبي إلى ركود خلال الربع الثالث من العام الحالي، واستمر البنك الفيدرالي في رفع معدلات الفائدة.
وفي لقاء مع محطة سي إن بي سي الإخبارية المعنية بأخبار الاقتصاد والأسواق، توقع مسؤول أبحاث تداول العملات لدى البنك، جورج سارافيلوس، أن تتسبب مثل تلك التطورات في "تسارع شديد في هجرة الأموال الباحثة عن الملاذات الآمنة باتجاه العملة الأميركية، ما يزيد الضغوط على اليورو"، مشيراً إلى أن انخفاض العملة الأروبية بهذا القدر في تلك الفترة القصيرة سيجعل من الفترة الحالية الأكثر تذبذباً فيما يخص معامل المخاطرة النسبي بين الاقتصادين منذ اتفاقية بريتون وودز التي تم عقدها مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي مذكرة حديثة لمركز الأبحاث كابيتال ايكونوميكس، اعتبر المركز أن تحركات المستثمرين في مختلف أنواع الأصول تعكس توقعهم حدوث المزيد من التراجع في اقتصادات الدول الأوروبية، مشيرين إلى العديد من التحديات السياسية التي تواجه القارة العجوز في بعض أهم اقتصاداتها، كألمانيا وإيطاليا.
وأكد كبير اقتصاديي الأسواق بمركز أبحاث كابيتال ايكونوميكس، جوناثجولترمان، يوم الجمعة الماضي أن "الصورة الكبيرة توضح أن ارتفاع المديونية السيادية للحكومات الأوروبية تحد من قدرة البنك المركزي الأوروبي على رفع معدلات الفائدة لتتوافق مع ما يقوم به البنك الفيدرالي الأميركي".
وأكد المركز أيضاً توقعه المزيد من المعاناة للعملة الأوروبية بسبب استمرار محدودية البدائل المتاحة لدول المنطقة لتوفير الغاز خلال فصل الشتاء، ومن ثم استمرار ارتفاع أسعاره خلال الفترة المقبلة.
وعلى نحو متصل، توقع محللو بنك يونيكريديت الإيطالي واسع الانتشار في منطقة اليورو استمرار ضعف العملة الأوروبية مقابل الدولار خلال الفترة القادمة، مؤكدين في مذكرة أشارت إليها وكالة بلومبيرغ الأسبوع الماضي أن "المنطق السائد في سوق العملات الأجنبية وعبر الأصول لا يزال كما هو، حيث لا يزال يُنظر إلى بنك الاحتياط الفيدرالي " البنك المركزي الأميركي" على أن لديه مجال أكبر (من المركزي الأوروبي) لرفع معدلات الفائدة في المستقبل، مدعوماً أيضًا بتقرير الوظائف الأميركي القوي لشهر يونيو / حزيران الماضي".
قبل الرفع الأخير، لم يرفع البنك المركزي الأوروبي معدل الفائدة على اليورو منذ عام 2011، إلا أنه اضطر للتحرك بعد كل تلك السنوات مع تجاوز معدل التضخم في أوروبا مستوى 8.6%
ومن ناحية أخرى، فقد أشارت المذكرة إلى أن البنوك المركزية الأخرى، مثل البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا المركزي، قد تصبح أكثر تردداً في رفع معدلات الفائدة، نظرًا للتعرض المباشر لاقتصاداتها لأزمة الغاز والطاقة. حلم الاتحاد الأوروبي مهدّد ورغم كونها حلماً للاتحاد الأوروبي منذ الستينات، تم إطلاق اليورو افتراضياً في الأول من يناير / كانون الثاني من عام 1999، عندما كانت تساوي 1.19 دولارًا، قبل أن تتواجد في الأسواق فعلياً عام 2002.
وبعد ساعات قليلة من انطلاقها الأول، تراجع سعر العملة الأوروبية التي طال انتظارها، لينزلق بعد فترة دون مستوى التعادل مع الدولار في فبراير / شباط من عام 2000، وصولاً إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 82.30 سنتًا في أكتوبر / تشرين الأول من نفس العام.
وارتفعت العملة الأوروبية لأكثر من دولار اعتباراً من عام 2002، على خلفية العجز التجاري الأميركي الكبير، كما الفضائح المحاسبية في وول ستريت، لتصل إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، 1.5772، في مارس / آذار من عام 2008، في ذروة احتدام الأزمة المالية العالمية، بتأثيراتها الضخمة على السوق الأميركية، ثم عادت للتراجع مرة أخرى على وقع طبول الحرب الروسية الأوكرانية.