إعادة اكتشاف قناة السويس

30 مارس 2021
تعويم السفينة إيفرغيفن وفتح معبر قناة السويس
+ الخط -

لم يقف العالم بعد على حجم الخسائر التي سيتكبدها الاقتصاد العالمي بسبب توقف الملاحة في قناة السويس بعد جنوح سفينة الحاويات إيفرغيفن العملاقة التابعة للخط الملاحي إيفر جرين في المجرى الملاحي للقناة منذ يوم الثلاثاء 23 مارس/ آذار.

إغلاق القناة تسبب في تأخير الشحن وزيادة تكاليف النقل وارتفاع أسعار النفط بنسبة 5% وتراجع مخزونات الغاز والنفط وإرباك سلاسل إمداد السلع والأغذية في أسواق أوروبا وآسيا. وربما تؤدي الكارثة إلى تغيير الخريطة البحرية لخطوط الشحن العالمية التقليدية، وتجاوزها إلى طرق برية وبحرية جديدة.

كشفت الحادثة عن أن قناة السويس ما زالت أهم شريان تجاري في العالم منذ افتتاحها للملاحة لأول مرة في سنة 1869، وأكثر ممرات الشحن ازدحاما. فطولها الذي لا يتجاوز 120 ميلا يختصر المسافة والوقت بين قارتي آسيا وأوروبا بنسبة 43%، ويوفر على ناقلات النفط الخليجي إلى أوروبا مسافة 6000 ميل إضافية إذا قطعت طريق رأس الرجاء الصالح الذي يدور حول قارة أفريقيا كلها.

وما زالت القناة هي الطريق المفضل لناقلات النفط وحاويات الغاز الطبيعي وسفن البضائع المصنعة والخام، الخفيفة والثقيلة، الغذائية والزراعية، السلمية والعسكرية، فهي تخفض كلفة نقل البضائع بين القارتين بمعدل 300 ألف دولار من تكاليف الوقود في الرحلة الواحدة.

ولا أدل على أهمية القناة لمرفق التجارة العالمية من تضاعف كلفة شحن حاوية 40 قدما من الصين إلى أوروبا إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه قبل إغلاقها. ذلك أن حوالي 12% من مجمل التجارة العالمية يتدفق في مجرى القناة، وتجاوز عدد السفن العابرة فيها من آسيا إلى أوروبا والعكس نحو 19 ألف سفينة خلال العام الماضي، وفق إحصاء هيئة قناة السويس.

ويتدفق حوالي عُشر تجارة النفط والغاز الطبيعي المنقولة بحراً في العالم من خلال ممر قناة السويس، وفق إدارة معلومات الطاقة الأميركية في عام 2018، وتمر خلالها 50 سفينة في اليوم الواحد محملة بـ1.2 مليار طن من البضائع، ربعها محمل على ظهر حاويات عملاقة مثل تلك التي جنحت في مجرى القناة أخيرا وتسببت في الأزمة العالمية.

ولا تقل أهمية القناة للاقتصاد المصري عن أهميتها للاقتصاد العالمي، فهي ترفده بأكثر من 5 مليارات دولار في العام، في مقابل 70 مليار دولار للصادرات وتحويلات العاملين بالخارج والسياحة والاستثمارات الأجنبية، وفق بيانات الجهاز المركزي المصري في 2019.

تداعيات كارثية

إن تعطل الملاحة في قناة السويس يعني إرباك الصناعة والتجارة والخدمات في الشرق والغرب. يعني تأخير وصول البترول من الخليج العربي والمواد الخام، مثل القطن من الهند وقطع غيار السيارات من الصين، لمصانع الإنتاج في أوروبا.

توقف القناة يعني الدوران حول قارة أفريقيا وزيادة وقت وكلفة النقل من آسيا والخليج العربي إلى أوروبا بنسبة 47%. لقد زادت كلفة ناقلة الحاويات بأكثر من 2.2 مليون دولار خلال الأيام الأربعة الماضية فقط، وفق مسؤول بشركة برايمار سنغافورة للشحن.

وقال تجار نفط أوروبيون إن كلفة استئجار ناقلة نفط من آسيا إلى أوروبا بعيدا عن قناة السويس ارتفعت بنسبة 25% هذا الأسبوع. عُشر بضائع ألمانيا تمر عبر قناة السويس، وبدأت شركة أودي الألمانية لصناعة السيارات في بحث استخدام الشحن الجوي الأعلى سعرا في نقل قطع غيار من الصين لتجنب توقف الإنتاج.

إسبانيا وإيطاليا وفرنسا قد تشهد ارتفاعًا في أسعار الغاز لأنها تعتمد على شحنات النفط المنقولة عبر القناة. كما يمنع إغلاق القناة حاويات الشحن الفارغة من العودة إلى آسيا، ما يزيد من نقص الحاويات الناجم عن زيادة الطلب على السلع الاستهلاكية المرتبطة بوباء كورونا المستجد.

وأثبتت الأزمة أن تعطل الملاحة في القناة لساعات قليلة رفع سعر النفط بنسبة 5%. الارتفاع في سعر النفط لا يقاس بالدولار في البرميل ولكن يقاس بالسنت الواحد في البرميل. يمر حوالي مليوني برميل من النفط يوميًا عبر القناة، وفق لويدز. وحولت سبع ناقلات غاز طبيعي مسال مسارها بعيدا عن قناة السويس إلى طريق رأس الرجاء الصالح لتصل إلى أوروبا، وفق شركة كبلر لتحليل البيانات.

بدائل متربصة

ورغم أهمية القناة الاستراتيجية، فقد كشفت الحادثة أيضا عن أنها ليست آمنة بالقدر الكافي، ما يشكل خطرًا على التجارة العالمية عامة ونقطة اختناق حرجة. وكذلك تمثل نقطة ضعف في عصب التجارة العالمية، حيث يعبر ممرها الضيق ما يقرب من 10 مليارات دولار من البضائع كل يوم، بتقدير مجلة ليودز المتخصصة في أخبار الشحن، والتي تقول إن بضائع بقيمة 5.1 مليارات دولار تعبر القناة إلى الغرب، وأخرى بقيمة 4.5 مليارات دولار تعبرها إلى الشرق.

كشفت الحادثة أيضا عن تعامل النظام المصري مع الأزمة بتعتيم واستهتار وغياب عن المشهد وتغييب للمعلومات الحقيقية وتضليل لشركات الشحن والرأي العام العالمي وبما لا يتناسب وخطورة الحادثة وأهمية القناة الاستراتيجية على الاقتصاد العالمي، فخسر تعاطف العالم وتحول من مجني عليه إلى متهم بالكذب والفهلوة.

فلم يظهر الجنرال السيسي في موقع القناة، وفي اليوم الثاني للحادثة أعلن رئيس الهيئة عن تعويم السفينة وعودة الملاحة لطبيعتها، ثم ثبت كذب الادعاء ولم يعتذر.

وقد عبر الكاتب الصحافي المشهور ديفيد هيرست، في مقال نشر بموقع ميدل إيست آي بعنوان: السيسي ليس خطرا فقط على مصر بل على العالم، وقال إن أزمة السفينة الجانحة أحاطت علم العالم باستمرار أهمية القناة ومصر لحركة الشحن الدولي، وبحقيقة أن السيسي يشكل خطرًا، ليس فقط على شعبه وبلده، ولكن أيضًا على التجارة الدولية والاستقرار.

استغلت روسيا أزمة قناة السويس وطرحت طريق بحر الشمال كبديل للقناة لنقل النفط والغاز الروسي إلى أوروبا. وقاد الرئيس فلاديمير بوتين حملة منظمة للترويج للممر باعتباره منافسًا لقناة السويس ويختصر الرحلة إلى الموانئ الأوروبية بحوالي مدة 15 يومًا مقارنة بالطريق التقليدي عبر قناة السويس. فأعلن مكتب الأرصاد الجوية الروسي أن الطريق يكون في بعض السنوات خاليًا تمامًا من الغطاء الجليدي بسبب الاحتباس الحراري وذوبان الجليد.

وبعد حادث قناة السويس نشرت وكالة روساتوم النووية الروسية، وهي المشغل الرسمي للبنية التحتية في الممر، صورة ساخرة لسفينة عالقة في ممر مائي وكتبت تحتها تقول إنه إذا علقت السفن في طريق بحر الشمال، فإن روسيا سترسل كاسحات جليد لقطرها.

ويوجد تعاون رسمي بين روسيا والصين لشق طريق عبر بحر الشمال يوفر الوقت والمال للشركات الصينية والروسية، فالرحلة البحرية من شنغهاي بالصين إلى هامبورغ في ألمانيا يختصرها الممر المقترح بواقع 2800 ميل بحري مقارنة بعبور قناة السويس.

وللبحث عن بديل جديد أيضا، أطلقت الصين، في أواخر سنة 2017، قطارا ينقل المنتجات الصينية إلى أوروبا، ويقطع المسافة بين الصين وأوروبا في 18 يوما بدلا من 34 يوما عبر قناة السويس.

وفي أواخر العام الماضي، وقعت أبوظبي وتل أبيب اتفاقا لنقل النفط من الخليج إلى أوروبا عبر خط أنابيب يربط بين ميناءي إيلات على البحر الأحمر وعسقلان على البحر المتوسط، كبديل لقناة السويس.

الخط قديم، أنشأته إسرائيل في ستينيات القرن الماضي لنقل النفط الإيراني خلال حكم الشاه من البحر الأحمر إلى أوروبا كرد على وقف مصر المرور في القناة بسبب العدوان الثلاثي عام 1956.

الخط قد يقلل حركة التجارة في قناة السويس بأكثر من 17%، وفق مجلة فورين بوليسي الأميركية، في ظل تخلي مصر عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية، وهما اللتان تتحكمان في مدخل خليج العقبة إلى ميناءي العقبة بالأردن وإيلات بإسرائيل.

وعلى هامش الأزمة المستمرة، اقترح السفير الإيراني لدى روسيا كاظم جلالي تفعيل ممر ملاحي يمر من بلاده ليكون بديلا عن قناة السويس المعطلة. ومنذ سنوات تروج إيران لممر تجاري تسميه شمال - جنوب، ويربط بين الهند وروسيا مرورا بأراضيها وبحر قزوين وتقول إنه أقل خطورة ويختصر الزمن والتكاليف حتى 30% مقارنة مع قناة السويس.

وفي عام 2014، تم اختبار عملي لنقل البضائع من الهند إلى باكو الأذرية وأستاراخان الروسية عبر ميناء بندر عباس، جنوب إيران. وأشارت النتائج حينها إلى أن تكاليف النقل تقلصت بمقدار 2500 دولار مقابل كل 15 طنا، إضافة إلى أن عملية النقل استغرقت 14 يوما، مقابل 40 يوما إذا ما تم نقلها عبر قناة السويس.

الممرات البديلة لقناة السويس تتربص بمستقبلها، ولم تكن في حاجة لأسباب ومبررات تعيد طرحها بقوة أكثر من الحادثة الحالية للقناة وتعامل النظام المصري الكارثي الفج معها.

وقد تجد هذه البدائل من يصغي إليها في المستقبل القريب ويستثمر فيها من الدول الكبرى في آسيا وأوروبا مع تهديد قناة السويس للتجارة العالمية وتنامي عدم الثقة الدولية في قدرة النظام الحالي في مصر على إدارة مرفق القناة بشفافية ومصداقية وجدية وكفاءة.

فرص ضائعة

كشفت حادثة إيفر غيفن عن أن مشروع تنمية محور قناة السويس الذي دشنه الرئيس الراحل محمد مرسي كان ولا يزال هو المشروع المرجو بمضاعفة دخل القناة إلى 100 مليار دولار.

المشروع يستهدف تطوير ميناء شرق بورسعيد ليكون محورا عالميا ومركزا لوجستيا لصيانة وتموين السفن بالوقود، باستثمارات مقدارها 2.5 مليار دولار، ويشمل منطقة لوجستية بشمال شرق بورسعيد ومناطق ترفيهية لرواد السفن العابرة، وتطوير ميناء سفاجا، جنوب غرب قناة السويس، ليكون مركزا لوجستيا عالميا لخدمة السفن والحاويات وتداول واستقبال البضائع العامة، وميناءي العين السخنة والسويس ليضم محطات تموين وخدمات السفن والحاويات، ومراكز لوجستية لخدمة التجارة الدولية العابرة لقناة السويس، ومحطات تخزين وتداول السلع.

كشفت إيفرغيفن أخيرا عن أن مشروع تفريعة قناة السويس التي كلفت 8 مليارات دولار وروج لها الجنرال السيسي في منتصف سنة 2014 تحت مسمى قناة السويس الجديدة وأنها ستوفر 100 مليار دولار للدخل القومي، وترفع دخل القناة إلى 13 مليارا، كان مشروعا خاطئا وفاشلا، وأن الاستثمار في تطوير عمق القناة ليناسب الجيل الجديد من الناقلات العملاقة، مثل إيفرغيفن وما بعدها، والتي تدفع ملايين الدولارات مقابل المرور فقط، كان هو المشروع الأولى والأكثر جدوى للقناة وللدخل القومي المصري في ظل تأكيد رئيس هيئة القناة على تكرار عمليات جنوح السفن.

إذا لم يأخذ النظام العبرة من الدرس ويستثمر في رفع الكفاءة والأمن والسلامة في ممر القناة، ويطور إدارة أخطر وأهم ممر مائي في العالم اليوم، ويقدم منظومة تشغيل تليق بسمعة قناة السويس، فإن القناة سوف تتقادم لغيرها من الممرات المتربصة بها، كما تقادم لها طريق رأس الرجاء الصالح قبل قرن ونصف، والتكنولوجيا لا تقدس القديم.

المساهمون