- يستهدفون شركات كبرى مثل غوغل وأمازون بالضغط عبر سحب الاستثمارات، معتمدين على قوة صناديق الوقف الجامعية، مما يعكس قوة الحركات الطلابية في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي.
- تواصل الحركات الطلابية جهودها رغم التهديدات، مستلهمة من نجاحات الماضي وتعزز الوعي بالقضايا العالمية، مؤكدة على أهمية النضال من أجل العدالة والحقوق عبر الحدود.
ما أشبه ما يجري في الجامعات الأميركية اليوم بحكاية سقوط نظام "الفصل العنصري" في جنوب أفريقيا، حينما تحولت المعارضة الطلابية لنظام جنوب أفريقيا العنصري وقتها من الأدوات المعنوية واللسانية في الاحتجاج إلى المعارضة العملية والضغط المباشر على أدوات التمويل والاستثمار. وحتى الآن، يسطر التاريخ نجاح ثلاث ثورات طلابية ضد الظلم والحرب في العالم، حيث نجحت الثورة الطلابية في أميركا في الستينيات من القرن الماضي بكتابة نهاية الحرب الأميركية ضد "فيت ـ كونغ" وعودة فيتنام حرة، كما نجحت الاحتجاجات الطلابية كذلك في القضاء على النظام العنصري في جنوب أفريقيا، مستخدمة "ضرب المحافظ المالية" التي أجبرت الشركات والحكومات على سحب أموالها من جنوب أفريقيا.
واليوم، يلجأ الطلاب في أميركا إلى نفس الأسلوب؛ حيث يضغطون على الجامعات الأميركية بسحب استثماراتها من إسرائيل وشركاتها ومشروعاتها، عبر حرمانها من ضخ أموال صناديق الوقف في الجامعات من الأسهم والسندات المستثمرة بالشركات الداعمة للكيان المحتل. وبالتالي، يتزايد القلق في تل أبيب وشركائها في جرائم الحرب القذرة على غزة من تطور المظاهرات الطلابية من المعارضة المعنوية إلى المعارضة العملية التي ستضرب المال، عبر سحب الاستثمارات من إسرائيل ومقاطعة الشركات التي تدعمها، وفق مراقبين.
فالثورة العارمة ضد جرائم إسرائيل التي تجتاح أميركا وأوروبا منددة بالعدوان البشع على الفلسطينيين في غزة تعيد إلى الأذهان مشهد الاحتجاجات الطلابية التي انتظمت الجامعات في القرن الماضي ضد نظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا والتي تواصلت حتى كتبت نهايته. ففي جامعة كولومبيا في نيويورك، على سبيل المثال، يطالب المتظاهرون الجامعة بإعادة توجيه كل أموالها، بما في ذلك وقفها، بعيداً عن الشركات والمؤسسات التي تستفيد مما يسمونه "الفصل العنصري الإسرائيلي والإبادة الجماعية والاحتلال في فلسطين"، وفق قناة "سي بي أس" الأميركية.
وتشمل الشركات التي يقولون إنها تستفيد من هذه الصناديق، شركات كبرى مثل غوغل وأمازون ومايكروسوفت. وطالبت لجنة التضامن مع فلسطين في جامعة تكساس في مدينة بوستن إدارة الجامعة، بإلغاء ملايين الدولارات التي تستثمرها في الشركات التي تصنع الأسلحة، والتي قالت إنها "متواطئة في الإبادة الجماعية في غزة". كما تم تقديم مطالب مماثلة في حرم الجامعة في دالاس من قبل طلاب من أجل العدالة في فلسطين.
وتتوسّع المعارضة ضد إسرائيل وجرائمها الوحشية في أميركا، حيث انضمت إلى الجامعات الأميركية المدارس الثانوية وحتى بعض المدارس الابتدائية، حسب ما نقلته وسائل التواصل الاجتماعي. وبات هناك مطلب أساسي وموقف يقع في قلب الاحتجاجات على الحرب في غزة، ينتظم حاليًا بالحرم الجامعي في جميع أنحاء الولايات المتحدة وحول العالم، وهو أن تسحب الجامعات الأميركية استثماراتها من إسرائيل والشركات الداعمة لها. وهذا يعني سحب الأموال التي استثمرتها أوقافهم في شركات مرتبطة بدولة الاحتلال، وربما تتطور إلى وقف التعاون العلمي مع المؤسسات البحثية الإسرائيلية.
ويُعد سحب الاستثمارات الاحتجاجية هو شكل من أشكال المعارضة العملية، حيث يقوم المساهمون عمدًا ببيع أصولهم من الشركة لإحداث تغيير اجتماعي. ومن خلال بيع الأسهم أو السندات، يأمل المتظاهرون في التأثير على ربحية الشركات، وربما بث الذعر وسط المستثمرين في أسهمها بالبورصات، مما يعني هروب المستثمرين من أدواتها المالية وربما الوصول إلى انهيارها. ولا يدري البعض القوة المالية لصناديق الوقف التي تملكها الجامعات الأميركية، ولكنها قوة مالية كبيرة تفوق التريليون دولار.
ووفق بيانات المركز القومي لإحصائيات التعليم في أميركا، فإن حجم صناديق الوقف في الـ20 جامعة الكبرى في الولايات المتحدة بلغ في نهاية عام 2021 نحو 927 مليار دولار. وتوجد في أميركا وحدها نحو 3982 جامعة وتنضم إلى هذه الجامعات نظيراتها في أوروبا وأستراليا واليابان. وهذا يعني أن حجم الأموال في صناديق الوقف في الجامعات الأميركية تفوق رقم التريليون دولار بكثير، وقد تصل إلى أكثر من تريليوني دولار وفق تقديرات غير رسمية عندما تنضم لها الجامعات الأوروبية.
وكمثال على ذلك، فإن جامعة هارفارد لديها وقف يبلغ 53 مليار دولار نشط في الاستثمارات بأسواق المال، ولدى جامعة ييل 42 مليار دولار، وتكساس 40 مليار دولار، وستانفورد 38 مليار دولار، وبرينستون 37 مليار دولار، وذلك حسب بيانات المركز القومي لإحصائيات التعليم في أميركا. يضاف إلى هذا الثقل المادي، الثقل المعنوي واحتمال تطور الضغوط لتصل إلى صناديق البلديات والمؤسسات المدنية مثل المستشفيات والخدمات مثل المياه والكهرباء التي سبق أن تضامنت مع المعارضة الطلابية ضد العنصرية في جنوب أفريقيا. وتشير دراسة في جامعة "ييل الأميركية"، إلى أن قضية العقوبات ضد النظم تحوز نسبة نجاح كبيرة، كما هو الحال في قضية جنوب أفريقيا. حينما تم تطبيق العقوبات ضد النظام العنصري في جنوب أفريقيا في منتصف الثمانينيات.
وهذه الجامعات العريقة ولا سيما الجامعات الأميركية تمثل قيادة التقدم التقني والوظيفي في كبرى الشركات والمؤسسات الأميركية المدنية والحكومية، وهو ما يعني أنها ستلعب دوراً كبيراً في نشر الوعي ضد نظام "الميز العنصري" و"الاستيطان الإسرائيلي" للأراضي الفلسطينية واحتلالها بالقوة وتشريد أهلها. وحتى الآن، لعبت هذه الاحتجاجات دوراً كبيراً في بث الوعي وتثقيف الشعب الأميركي بالقضية الفلسطينية، كما كشفت مزاعم وألاعيب "أبياك" والمنظمات الأخرى المناصرة لإسرائيل.
ومن المتوقع أن تتضافر عمليات سحب استثمارات الجامعات الأميركية من الشركات الداعمة لإسرائيل إلى جهود منظمة "بي دي أس BDS" التي تكونت منذ عام 2014 وتقوم بدور نشط في مقاطعة البضائع الإسرائيلية والشركات الداعمة لنظام الميز العنصري والاحتلال الإسرائيلي. وحتى الآن، تهدد اللوبيات والشركات الكبرى الداعمة للكيان الإسرائيلي وعلى رأسها "أيباك"، الطلاب بحرمانهم من الوظائف في المستقبل، كما يهدد بعض الأثرياء الجامعات الأميركية بحرمانها من التبرعات. وفي الكونغرس مرر "اللوبي الصهيوني" الداعم لإسرائيل قانون تجريم "معاداة السامية" وربط بينها وبين معارضة السياسة الإسرائيلية والحرب ضد غزة. ولكن هذه التحركات الداعمة لإسرائيل تثير السخرية والغبن في آن معاً، وسط الحركات الطلابية التي تؤمن بأن "انتقاد إسرائيل لا يعني معاداة السامية"، وأن المجرم ليس له جنس أو دولة، وأن ما ارتكب ويرتكب في غزة من جرائم ضد المواطن الفلسطيني لا علاقة له بمعاداة السامية.
ورغم رفض بعض إدارة الجامعات الأميركية حتى الآن سحب استثماراتها من إسرائيل والشركات الداعمة لها، فإن جامعات أخرى رضخت لضغوط الطلاب. وقالت إنها ستجري محادثات مع الطلاب المتظاهرين حول سحب الاستثمار أثناء محاولتها قمع الاحتجاجات المتزايدة، وذلك وفق تقرير بقناة "سي بي أس الأميركية".
وتأتي هذه التهديدات بسحب الاستثمارات في وقت تراجع فيه وكالات التصنيف الائتماني، تصنيف الأصول الإسرائيلية. كما تأتي الضغوط الطلابية في وقت يئن فيه الاقتصاد الإسرائيلي من كلف الحرب على قطاع غزة ويحاول اجتياح رفح وهو بحاجة إلى مزيد من التمويل. وترتفع الديون في إسرائيل إلى أكثر من 300 مليار دولار، وفق البيانات الرسمية. كما يعاني الكيان من هروب المستثمرين من بورصة تل أبيب، ويتواصل اهتزاز الشيكل. وهو ما يعني أن حكومة نتنياهو بحاجة ماسة للحصول على أموال عبر طرح سندات دين دولية أو محلية خلال العام الجاري لتمويل العجز بالميزانية، وتترقب اكتتاب الشركات والجامعات الأميركية والمساهمة في تغطية تلك السندات.
هل يشكل سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نموذجاً في الجامعات الأميركية اليوم؟
واجهت الشركات الأجنبية صعوبة في ممارسة الأعمال التجارية في جنوب أفريقيا بسبب الضغوط التي تواجهها بلدانها الأصلية المطالبة بسحب الاستثمارات، وقادت هذه الضغوط إلى تضاؤل جاذبية جنوب أفريقيا للشركات العالمية. وحسب دراسة "ييل"، أوضح أحد المسؤولين التنفيذيين في مصرف "تشيس مانهاتن" الأميركي وقتها، انسحاب شركته من جنوب أفريقيا بقوله: "شعرت أن المخاطر المرتبطة بالاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار الاقتصادي أصبحت مرتفعة للغاية في جنوب أفريقيا وقررنا الانسحاب". وتابع "لم تكن النية أبدًا تسهيل التغيير السياسي بجنوب أفريقيا، وتم اتخاذ القرار بناءً على ما هو في مصلحة المصرف ومستثمريه".
ونشأت الأزمة المالية في جنوب أفريقيا بسبب قرارات بنوك القطاع الخاص التي رأت تدهورًا بالوضع الاقتصادي الذي زرع الشكوك في الجدارة الائتمانية للبلاد وقتها. وتقول الدراسة إن تداعيات الضغوط على الشركات بسحب استثماراتها، كانت أكبر بكثير من العقوبات العامة التي تلت ذلك من الدول. وفي أغسطس من عام 1985، ألقى الرئيس الجنوب أفريقي وقتها، بيتر بوتا، خطابًا قدم فيه إصلاحات بنظام الفصل العنصري. لكن الإصلاحات كانت أقل بكثير من المطالب الجماهيرية والطلابية. وعندما اشتدت الأزمة في جنوب أفريقيا انخفضت عملة الراند المحلية أكثر. وفي أواخر أغسطس، أغلقت الحكومة البورصة مؤقتًا، وكذلك أسواق الصرف الأجنبي وعلقت مدفوعات الفائدة على ديونها.
وانتهت الضغوط إلى خروج نيلسون مانديلا من السجن، وفي 9 مايو 1994، تم انتخابه رئيساً لجنوب أفريقيا. ولم تكن رئاسة مانديلا التاريخية ممكنة على الإطلاق خلال فترة الفصل العنصري، والتي تحققت نهايتها جزئيًا من خلال سحب الاستثمارات الاحتجاجية من جنوب أفريقيا.