استمع إلى الملخص
- تتجلى التحديات في التوازن بين تحقيق الديمقراطية وتأمين الاحتياجات الأساسية، مع انقسام حول التركيز على الأمن والاقتصاد أو الديمقراطية كسبيل لتجنب الديكتاتورية.
- يتطلب الوضع تنسيقًا بين المطالب الديمقراطية والاحتياجات الاقتصادية، مع التركيز على الأمن والوحدة الوطنية، وإعادة بناء الأحزاب والجمعيات السياسية.
كل ما يجري من حراك في سورية، حتى اليوم، مفيد وضروري ومحق، فالخلاف والاختلاف، وحتى الصراع، بالأدوات الراقية التي نراها حتى الآن، هو شرط لازم لتكريس الحريات والديمقراطية التي سترتكز عليها أسس الدولة العتيدة الموعودة، فمن عاش القمع أكثر من خمسة عقود، واستنشق الحرية دفعة واحدة، من الطبيعي أن يفكر بحرق المراحل، وإن بدا تائه البوصلة ومختلط الدوافع أو رافعاً سقف المطالب إلى ما لا تحتمله سورية والمرحلة أو ما يسمح به المتربصون.
الدهشة ربما هي التبرير الأبرز للذي يحدث، الدهشة من سقوط النظام وهروب بشار الأسد، والدهشة من نيل الحرية بعد أن لمس السوريون عدم اعتقال من ينقد، أو قتل من يتناول السلطة الحاكمة. فاليوم، يمكن لأي سوري أن يقول ويعبر بما كان التطرق إليه، ولو تلميحاً، جرماً يستوجب السجن سنين، ولعل في شماعة النيل من هيبة الدولة أو إثارة النعرات الطائفية، مثل خلق فوبيا لدى السوريين، انعكس تنوعاً، إن لم نقل شبه فوضى اليوم، بعد اكتسابهم الحرية بعرق جبينهم ودماء ثوارهم.
بيد أن هواجس، إن لم نقل مخاوف، بدأت تسري في العديد من أوساط السوريين جراء ما يراه هؤلاء من انفلاش ومحاولات إعاقة، خاصة أنهم يرون أن بعض قادة الحراك من فلول النظام أو من السواد الأعظم المؤيد لنظام الأسد أو الصامت بالماضي عن جرائمه وفساد أركانه.
ليأتي الرد سريعاً على تلك المخاوف ومدعيّها، من أقطاب وتكتلات، بدأت تتسع بالساحة والساحات السورية، أننا وصلنا إلى الحرية وانتهينا من الخوف والاستبداد، ولن تصمت على ما نراه تجاوزات أو تعدٍ على حقوق الشعب، آخذين من بعض تصريحات الحكومة الانتقالية ذرائع ومن التعيينات أدلة، الأمر الذي خلق حراكاً يتسع، وقد يتسع أكثر بالأيام المقبلة، حراكاً مضاداً، ما يعيد، ربما، سيرة ما بعد الثورة المصرية أو بعض ملامح تونس، ويزيد من مخاوف خسارة الانتصار أو التدخل الخارجي لدى سوريين يحرصون على الدولة ووحدتها وأمن أهليها، ولو اتهمهم غلاة الساحات، بالتنازل أو السكوت على تشكل الديكتاتور.
قصارى القول: ليست لقطة الحراك هذه هي كامل المشهد السوري، إذ ثمة لقطات مجتمعة، تشكل النقلة المتسارعة والمشهد العام الذي يقفز لمقدمته ربما، الحالة الاقتصادية والمعيشية لنيف وستة عشر مليون سوري، ذاقوا جميع أشكال القهر والتجويع سنوات، وذيّل حالهم أسفل المؤشرات والبيانات الدولية، ما يطرح، وبالنظر إلى الساحات وتغليب مطالب هوية الدولة، سؤالاً: أيهما أولى أو أولاً، الخبز وأمان السوريين، أم الديمقراطية ومواجهة الحكم، قبل أن يستأثر ويستبد؟.
ربما المطلع على واقع سورية المهدمة بعد ثلاثة عشر سنة من الحرب، وبعد هروب الأسد تحديداً وسرقة المليارات، يميل للأمان والخبز، وإن طاولته سهام دعاة الديمقراطية، لأن البطن الجائع لا يدير المنشآت كما أن اليد المرتجفة لا تخط الحريات.
ويتسلّح هؤلاء بالتركة الثقيلة التي خلفها النظام المخلوع، من ديون تقترب من 100 مليار دولار وخراب تزيد تكاليف إعماره عن 500 مليار، ومستوى دخل ومعيشة هو الأدنى على مستوى العالم. ما يزيد من دفعهم للأمن والاقتصاد أولاً، مطمئنين لحقيقة يرونها باتت قاعدة، أن السوريين كسروا حواجز الخوف ولن يسكتوا بعد تحقيق الأمن والاكتفاء عن أي حاكم أو تجاوزات.
في حين يرد عليهم أنصار الحريات والديمقراطية أولاً بأن كل الذي حصل، حتى من تجويع وفساد، إنما كان بسبب الاستبداد والصمت، وأن طريق الديكتاتورية يبدأ بتنازل، متسلحين هم أيضاً بعين الرقيب المتربص، الإقليمي والدولي، الذي لن يسمح بأي تعدٍ عليهم، وقد يأخذ من المساس بهم ذريعة للتدخل أو سحب الثقة التي يبنيها قائد العمليات أحمد الشرع لبنة تلو لبنة.
نهاية القول: قد يكون طرح، الديمقراطية والخبز معاً، جوابا دبلوماسيا فيه من التعطيل بقدر ما فيه من الكياسة. لأن فتح باب الديمقراطية على مصراعيه لشعب جائع لجميع أشكال الحريات منذ حكم البعث مطلع ستينيات القرن الماضي قد يعيق الذهاب للمصانع ويأتي على بعض نتائج انتصار الثورة، ويعيد سورية لوصاية دولية إن لم نقل لاحتراب داخلي وحرب أهلية.
لذا، لابد من المؤامة بين المطلبين المحقين، مع تغليب الأمن وتحصين سورية من الفتن على جميع الأولويات، والتي يتوافق معها تأمين سبل العيش والخدمات، ولو بحدها الأدنى أو المقبول، وذلك يتجلى عبر الانفتاح على القوى الوطنية العريقة، أشخاصاً وأحزاباً وقطاعات غير حكومية، اقتصادية واجتماعية، من دون القفز على العدالة الانتقالية أو التفريط بمحاكمة المجرمين وأباطرة الفساد والتدمير.
بمعنى، ثمة دور رئيس للحكومة الانتقالية، وهو الأمن والأمان للجميع، بمن فيهم طلاب الديمقراطية من دون المساس بهم، لطالما يحافظون على الطرق والأدوات السلمية بمطالبهم، والتركيز على الوحدة الوطنية لمجتمع متعدد كما السوري، من دون إغفال تأمين سبل عيش الشعب بعد التفكير بموارد تبعد سورية عن الارتهان وعبء الديون.
وتبقى الديمقراطية الممر الإجباري للسوريين، رغم أن بناءها يتطلب زمناً وتقاليد، تأتي عبر فضاء سياسي، أحزاباً وجمعيات، وتلك القوى بدورها تتطلب وقتاً ليعاد ترميمها وتصحيح هياكلها وبناها، بعد أن أجهض النظام المخلوع كل فضاءات الحرية والعمل المدني والسياسي بسورية الأسد.