تتزايد الضغوط في الاتحاد الأوروبي بشأن تبنّي سياسات اقتصادية حربية مشتركة، تزامناً مع تصاعد التصريحات بأن القارة سائرة نحو ما يشبه "حرباً عالمية ثالثة"، وهو ما عبّرت عنه رئيسة حكومة الدنمارك، ميتا فريدركسن، وغيرها في دول الشمال، في الذكرى السنوية الثانية للحرب الروسية في أوكرانيا.
لم يعد بعض السياسيين الأوروبيين يترددون بشأن الحديث عن "الحرب الساخنة"، والتحذير من أن روسيا يمكنها أن تفتح جبهات أخرى في وجه أوروبا، إن شعرت بضغوط أكثر من القارة. إذ أشارت رئيسة حكومة الدنمارك إلى الواقع الذي تعيشه أوروبا "هو بالفعل حرب ذات أبعاد عالمية"، أقله لناحية تأثيرات الصراع على الاقتصاد في قلب أوروبا وحول العالم.
ومع انكشاف تأخر الاتحاد الأوروبي على مستوى التسلح والدفاع، أقله في العقود التالية لانتهاء الحرب الباردة (1947-1992)، والعجز عن إعادة تعبئة ما دفعت به القارة من مخازنها نحو أوكرانيا، بدأت تتعالى الدعوات نحو خطوة دراماتيكية أوروبية على مستوى تبنّي "اقتصاد الحرب".
تعيد هذه الخطوة أجواء مواجهة تداعيات جائحة كورونا قبل أربع سنوات، حيث تتطلب إنشاء صندوق "قرض مشترك"، كوسيلة للاستعداد ضد التهديدات الروسية. والفكرة غير التقليدية يراها مؤيدوها ضرورة حتمية لذهاب الاتحاد الأوروبي نحو ديون مشتركة من أجل سد ثغرات الصناعات الدفاعية الأوروبية، وتوفير الأموال لأجل مساعدات طويلة الأجل لأوكرانيا.
وينطلق مؤيدو القرض المشترك من فكرة أن "أوكرانيا تشكل حائط صد ضد روسيا"، أي أنها تدرأ عن القارة المواجهة المباشرة مع الروس.
ومن بين أكثر مؤيدي انتهاج الاتحاد الأوروبي اقتصاد حرب، لتقوية دفاعات القارة والإسراع في عجلة الإنتاج الحربي، يبرز إلى جانب الدنماركية فريدركسن، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة وزراء استونيا كاجا كالاس، ورئيس وزراء بلجيكا ألكسندر ديك رو، ورئيس مجلس الاتحاد الأوروبي تشارلز ميشيل.
حتى في ألمانيا التي انتهجت سياسة "سقف الدين العام" ومعارضة إعادة تجربة الدين المشترك في فترة كورونا، يبدو المستشار أولاف شولتز، أكثر إدراكاً لأهمية الحجج التي تساق بشأن ضرورة إعادة التسلح الأوروبي. شولتز، الذي خصصت بلاده 100 مليار يورو (109 مليارات دولار) لرفع كفاءة جيش بلده بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، يدرك أيضا شكوى قادة الجيش من أن عجلة الإنتاج الحربي بحاجة لدوران أسرع كماً ونوعاً.
ويرى الدنماركي ياكوب فونك كيركغورد، خبير الاقتصاد في "صندوق مارشال" الألماني في بروكسل، في تصريحات لصحيفة بوليتيكن الدنماركية، أنه من المنطقي على ضوء التطورات في أزمة الدفاع والأمن في أوروبا مناقشة خيارات اقتصادية من نوع الذهاب إلى دين مشترك بين دول القارة. ولا يساور كيركغورد شك بأنه "إذا كانت الدول تعتبر روسيا تهديدا فمن الطبيعي اتخاذ تلك الخطوة".
المسألة عند خبير اقتصادي آخر مثل نيلز مورتنسن في كوبنهاغن مرتبطة أيضاً بصورة مباشرة بمجريات الحرب في أوكرانيا "فأنت أمام مطلب واضح في تمويل تلك الحرب على المدى القصير، لكن أيضا لمواجهة مشكلة تتعلق بالدفاع عن القارة مستقبلا"، كما أفاد لـ"العربي الجديد".
ويعتقد مورتنسن أن "الاتحاد الأوروبي أمام سؤال عميق متعلق بالعلاقة بالحليف الأميركي، فمن الواضح أن القارة لا تستطيع اعتبار الاعتماد على واشنطن بنفس اليقين ومستوى ما ساد في أيام الحرب الباردة، وبالتالي ستكون أوروبا أمام تحد في خلق مجمع صناعي عسكري يكون قادراً على الاستجابة للتعامل مع جملة من المسائل، وبات نقاش القرض المشترك موضوعاً على الطاولة في هذا السياق".
في الفترة الأخيرة، تزايدت نقاشات الخيار "الدفاعي النووي"، أي تأمين مظلة ردع نووي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي. لكن من الواضح أن حماس باريس (الدولة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه بعد استفتاء 2016) لجلب أوروبا نحو تمويل رفع كفاءة الأسلحة النووية الفرنسية، لتكون بمثابة سلاح أوروبي، ليست ذاتها حتى في الشريك الألماني.
المبالغ الهائلة التي يبحث الأوروبيون عنها تأتي في أعقاب تقارير متخصصة تقول إن الصناعات العسكرية وتعويض ما جرى تقديمه إلى أوكرانيا يضع الأوروبيين على مسافة 3 سنوات على الأقل من روسيا، التي رفعت إنتاجها الحربي منذ سنوات.
كذلك يبرز إلحاح آخر ناقشه الأوروبيون والأميركيون والكنديون والبريطانيون خلال اجتماع باريس في 26 فبراير الماضي ويتعلق بتوفير ما تحتاجه كييف سريعاً، حيث يتعلق الأمر بمزيد من الصواريخ قصيرة المدى ومتوسطة المدى.
لذا أعادت رئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون دير لاين، طرح استخدام الأصول الروسية المجمدة في دول القارة لشراء الأسلحة إلى أوكرانيا، أي أن تحارب أوكرانيا بأموال روسية، رغم أن مثل هذه الخطوة سترفع من حرارة المواجهة بين موسكو والقارة العجوز، التي لم تعد تتحرج من إظهار سياسات متحدية لموسكو، بعد حذر طويل شارك في صياغته ماكرون وشولتز وقادة آخرون حول القارة.
الاستجابة التي يريدها أصحاب مشروع الدين المشترك تطرح مبادرات من مثل "الإنتاج المشترك" للذخيرة، ويسمى أوروبيا "قانون دعم إنتاج الذخيرة"، ويعرف اختصاراً بـ"آساب" (ASAP)، لكنه يتطلب قروضا ضخمة من أجل اللحاق بسباق التسلح بين القارة وغيرها، حيث يمكن للديون المشتركة الأوروبية أن تخفف من وطأة تعرّض الحكومات داخلياً لمناقشات محرجة عن تخصيص المال للاستثمار في مجالات العسكرة والدفاع.
وفي السياق، يشير الخبير الاقتصادي مورتنسن لـ"العربي الجديد" إلى أنه لو حصل الاتحاد الأوروبي على قروض مشتركة "فلن تضطر الحكومات التي تعاني ضغوطاً اقتصادية إلى مس قطاعات حيوية في مجتمعاتها كالصحة والرعاية الاجتماعية، إذ يصعب لو كانت القروض فردية (لكل دولة) إقناع الشارع بتخفيض الرعاية الاجتماعية مقابل الاستثمار في الإنتاج الدفاعي".
إلى جانب ذلك، يطرح بعض المتخصصين في سياسات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية أن القروض المشتركة بفائدة منخفضة تعد حلا أرخص، خاصة بالنسبة للدول التي تعاني اقتصاديا.
ووسط النقاشات التي تتزايد عن أن أوروبا في حالة "حرب ساخنة" فعليا مع روسيا، هناك طرح بتخصيص أموال لنشر قوات أوروبية على الأرض الأوكرانية بصيغة مستشارين وداعمين لوجستيين، بل دخول الدول الإسكندنافية إلى حافة الحديث عن أن أوكرانيا لن تكون المحطة الأخيرة لروسيا، بينما تبقى مسألة المال وتوفيره من أعقد القضايا الأوروبية المشتركة.
بعض الدول المعترضة على دين أوروبي مشترك تبدي خشيتها من أن يصبح الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل مثقلاً بالديون، بحيث ترحّل الفواتير إلى الأجيال القادمة، ما يهدد الدول الأقل حظا اقتصاديا، كما يشير مورتنسن.
ورغم أن ألمانيا الغنية كانت تعارض تحمّل مسؤولية الاستدانة المشتركة خلال أزمة اليونان المالية وكذلك جائحة كورونا، فإن هذه المعارضة قد تخفّ، خصوصا مع قضية حيوية تتعلق بمصير ومستقبل القارة من حيث قدرتها على التسلح، فشعورها بالتهديد لا يقل عن باقي دول القارة، بحسب الخطاب السياسي المطروح منذ سنتين.
لذا يتطلب الأمر إجماعا لترجمة الرغبات. وبمعنى أدق تقول الباحثة في السياسة الأمنية الأوروبية في المركز الدنماركي للدراسات الدولية كريستين نيسن إن "شعور بولندا أو إستونيا (من دول البلطيق وسوفييتية سابقة مع ليتوانيا ولاتفيا) بخطر روسي يختلف عن شعور إسبانيا بالأمر نفسه".
يأتي الانقسام حول الديون المشتركة لمواجهة الخطر الروسي في وقت يعاني الاتحاد الأوروبي بالأساس من صداع تمرد رئيس وزراء المجر القومي المحافظ فيكتور أوربان على النخبة السياسية في الاتحاد. فهو قادر، بحكم سياسة الإجماع على القرارات، على استخدام حق النقض "الفيتو"، من زاوية أنه محسوب على "أصدقاء بوتين في أوروبا".
وحتى الأمس القريب، استمر أوربان في عرقلة تحويل مليارات أوروبية لأوكرانيا، للمقايضة من أجل الإفراج عن أموال صندوق التعافي الذي خصص للدول الأعضاء، وجُمد عن بودابست باشتراطات الإصلاح السياسي وإعادة فرض الفصل بين السلطات.
في كل الأحوال، وبغض النظر عما ستؤول إليه عمليات تسخين الساحة الأوروبية للقبول بسياسة ديون مشتركة مجددا، فإن مسألة تراجع التصنيع الحربي ستبقى مؤرقة لمستويات سياسية وعسكرية على مستوى القارة.
ومع أن بعض الدول وبصورة فردية بدأت تضغط أكثر لزيادة وتيرة الإنتاج الحربي، فإن التقارير الأخيرة تفيد بأنه دون سياسة مشتركة على مستوى أوروبا ستبقى الغلبة لتسارع الإنتاج الروسي، ومقدرته على تعويض خسائره في أوكرانيا، أسرع مما ظن الأوروبيون مع انطلاق عقوباتهم ضد موسكو على شكل حزم كبيرة مستهدفة بصورة رئيسية قدرة روسيا على تغذية المجهود الحربي.
فحديث رئيسة حكومة الدنمارك أو رئيسة حكومة يمين الوسط السابقة في النرويج إرنا سلوبيرغ عن أنه يجب الاستعداد للحرب مع روسيا وكأنها واقعة لا محالة، ليس فيه فقط تهيئة للرأي العام الأوروبي لفهم المخاطر، بل لتسهيل تقبله دخول "اقتصاد الحرب"، بكل ما يحمله ذلك من آثار وعواقب على مستوى بعض شعوب القارة التي عاشت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) على ذاكرة دولة الرفاهية والرعاية.