بغض النظرعن الخسائر الأميركية الضخمة التي تكبدتها في أفغانستان وفوضى الانسحاب وما تلاه من خسائر في الأرواح، يرى خبراء أن المصالح الاستراتيجية الأميركية ربما ستفرض على إدارة الرئيس الاميركي، جو بايدن، لترتيب الأوراق الأمنية في أفغانستان عبر بوابة دول آسيا الوسطى في المستقبل، لكن هذه المرة ستكون العودة عبر الاستثمار وفتح وتحرير الأسواق وليس عبر القوة العسكرية.
ويرى خبراء أن منطقة آسيا الوسطى ذات موقع جغرافي استراتيجي للأمن القومي الأميركي وذات أهمية قصوى لنجاح خطة الرئيس الأميركي الرامية لاحتواء التمدد التجاري والاقتصادي الصيني وقطع الطريق أمام التنسيق الأمني بين موسكو وبكين.
وتمثل دول آسيا الوسطى التي تشمل إلى جانب أفغانستان كلّا من كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان وطاجيكستان، حلقة ربط رئيسية بين أسواق آسيا وأوروبا وممرا رئيسيا لمشاريع "الحزام والطريق"، كما أنها في ذات الوقت غنية بالموارد الطبيعية خاصة المعادن والنفط والغاز الطبيعي.
وبالتالي يرى الباحث الأميركي بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، جيمس غرانت، أنه "لا غني للولايات المتحدة عن دخول دول منطقة حوض بحر قزوين وبناء علاقات وطيدة لواشنطن معها".
ويقول الباحث غرانت إن "بناء مركز نفوذ للولايات المتحدة في آسيا الوسطى سيساعد إدارة بايدن لتحقيق أهدافها في أفغانستان دون تدخل عسكري لمحاربة الإرهاب، كما ستكون ذات فائدة قصوى لنجاح الاستراتيجية الأميركية في محاصرة النفوذ الصيني الروسي في آسيا ومحاصرة إيران. ويرى أن "فراغ النفوذ" الذي تركه الانسحاب الأميركي من أفغانستان يمكن تعويضه من خلال دخول أميركا دول آسيا الوسطى عبر التجارة والاستثمار ومشاريع تحديث البنى التحتية وتطوير الأسواق.
تقدر الثروات النفطية في منطقة بحر قزوين بنحو 200 مليار برميل من النفط ويعادل ذلك نحو 16% من الاحتياطي العالمي
ولدى واشنطن استراتيجة جاهزة لدخول آسيا الوسطى وضعت في العام 2019 على عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، ونشرت وزارة الخارجية الأميركية مقتطفات منها على موقعها العام السابق 2020 تحت عنوان "استراتيجية الولايات المتحدة لآسيا الوسطى بين أعوام 2019 ــ 2025".
وأنفقت أميركا خلال الأعوام الأخيرة حسب وثيقة الخطة نحو 9 مليارات دولار في شكل مساعدات لدعم الأمن والسلام والنمو الاقتصادي في دول آسيا الوسطى، كما قادت جهود صندوق النقد والبنك الدوليين وبنك التنمية والتعمير الأوروبي وبنك التنمية الآسيوي، لتقديم ائتمانات وقروض ومعونات فنية قيمتها 50 مليار دولار لدول آسيا الوسطى.
كما استثمر القطاع الخاص الأميركي نحو 31 مليار دولار في صفقات تجارية ومشروعات اقتصادية. وبالتالي فإن الانسحاب الأميركي من أفغانستان لا يعني أن أميركا تخلت عن آسيا.
ويعد موقع أفغانستان الاستراتيجي بين ثلاث قوى دولية تعارض النفوذ الغربي وهيمنة أميركا شبه المطلقة على "النظام العالمي" إلى جانب أهمية أفغانستان كممر رئيسي لنقل ثروات دول آسيا الوسطى المكتنزة في حوض بحر قزوين من النفط والغاز إلى الأسواق العالمية من أهم الأسباب التي جعلت من أفغانستان محط أنظار القوى العظمي.
وتعد أفغانستان المعبر الأقصر لمد خطوط أنانبيب لنقل احتياطات النفط والغاز الطبيعي بعيداً عن النفوذ الروسي وقطع الطريق أمام مشاريع "الحزام والطريق" الصينية من جهة أخرى.
وتقدر الثروات النفطية في منطقة بحر قزوين بنحو 200 مليار برميل من النفط ويعادل ذلك نحو 16% من الاحتياطي العالمي، وتقدر قيمتها بنحو 3 تريليونات دولار، ولكن الاحتياطات المؤكدة والقابلة للاستخراج تقل كثيراً عن ذلك.
ويقدر معهد بيكر للدراسات الأميركي التابع لجامعة "رايس يونفيرستي" بهيوستن تكساس، كميات النفط المؤكدة والقابلة للاستخراج في دول آسيا الوسطى بأنها تراوح بين 15 مليارا و31 مليار برميل من النفط.
كما يقدر احتياطات الغاز الطبيعي في دول حوض بحر قزوين بكميات تراوح بين 230 تريليونا و360 تريليون قدم مكعبة أو ما يعادل 7.0% من إجمالي الاحتياطات العالمية للغاز الطبيعي المكتشفة والقابلة للاستخراج.
وتعد الصين وروسيا من بين كبار الدول المستفيدة من الثروات المعدنية والهايدروكرونية بدول آسيا الوسطى.
وحسب بيانات معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة، فإن دول آسيا الوسطى تصدر سنوياً نحو 48.8 مليار متر مكعب من الغاز للصين ونحو 16.1 مليار متر مكعب سنوياً لروسيا ونحو 5.7 مليارات متر مكعب سنوياً لدول أخرى في منطقة آسيا الوسطى.
وأنشأت الصين خط أنابيب لنقل الغاز من تركمانستان بسعة 55 مليار متر مكعب في العام الماضي 2020. وبالتالي يرى خبراء أن صراع السيطرة على أفغانستان يعد صراعاً استراتيجياً لمستقبل الهيمنة الأميركية والنفوذ العالمي مع كل من الصين وروسيا.
ورغم غياب أميركا عن دول أميركا الوسطىة خلال عقود طويلة، إذ لم يزرها أي رئيس أميركي منذ الحرب العالمية الثانية وحتى لحظة الانسحاب الجاري من أفغانستان، إلا أن "فراغ النفوذ السياسي والأمني" ومخاوف تداعياته على آسيا، ربما يجعلان من جوزيف بايدن أول رئيس أميركي يزور دول آسيا الوسطى.
القطاع الخاص الأميركي استثمر نحو 31 مليار دولار في صفقات تجارية ومشروعات اقتصادية، وبالتالي فإن الانسحاب الأميركي من أفغانستان لا يعني أن أميركا تخلت عن آسيا
ويعود الاهتمام الأميركي بأفغانستان إلى ما قبل حادثة ضرب مبنى التجارة العالمية في نيويورك بسنوات وبعد هزيمة روسيا مباشرة . إذ حاولت أميركا بناء علاقات مع طالبان في العام 1996، حين دعت شركات الطاقة الأميركية، وتحديداً شركة "يونوكال" الوزير أحمد جان في حكومة طالبان وقتها لزيارة الولايات المتحدة.
ووجد جان ترحيباً حاراً من قبل شركات النفط والغاز ، إذ كانت شركة "يونو كال" تأمل في بناء خطي أنابيب يمران عبر أفغانستان، أحدهما نفطي ينقل النفط من دولة تركمانستان عبر أفغانستان إلى بحر العرب. وأنبوب آخر لنقل الغاز الطبيعي من دول آسيا الوسطى عبر أفغانستان إلى ميناء كراتشي في باكستان.
ومن المغريات الرئيسية التي جذبت الولايات المتحدة للتورط في المستنقع الأفغاني، آمال واشنطن في استثمار موقع أفغانستان الاستراتيجي الذي يتوسط آسيا الوسطى ويربط بين ثلاث قوى رئيسية تقع في صلب استراتيجية الهيمنة الأميركية على العالم والسيطرة على الطاقة وممراتها وأسواقها.
وحسب تحليل للبروفسور الأسترالي ريتشارد تانتار، أستاذ العلاقات الدولية، فإن الولايات المتحدة تأمل في تحقيق ثلاثة أهداف من السيطرة على أفغانستان وبناء نفوذ في آسيا الوسطى، وهي: حرمان روسيا من استغلال ثروات النفط والغاز الضخمة في دول حوض بحر قزوين، وهي دول ليست لديها إطلالة مائية مباشرة تربطها بالعالم لنقل ثرواتها إلى أسواق العالم.
وثانياً: وضع نهاية لأيّ احتمال لربط مشاريع الغاز الطبيعي في دول آسيا الوسطى مع إيران التي تقع تحت الحظر الأميركي.
ويذكر أن إيران اقترحت على دول آسيا الوسطى مد خط أنابيب مباشر إلى بحر العرب لربط مشاريع الغاز في هذه الدول مع مشاريعها، ولكن هذا المقترح لم يجد تمويلاً دولياً بسبب الحظر الأميركي الذي يحرم المصارف التجارية التي تتعامل مع الدول المحظورة من السوق الأميركي.
وثالثاً: تطوير دول آسيا الوسطى في مسار غربي رأسمالي يعتمد فتح وتحرير الأسواق بعيداً عن النفوذين الروسي والصيني. ويقول البروفسور تانتار، إن تطوير العلاقات مع دول حوض بحر قزوين، "يمنح واشنطن موقع نفوذ يقطع الطريق على التعاون الصيني ــ الروسي" في آسيا وإيران.
وعلى الرغم من أنه ليست لدى أفغانستان احتياطات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، فإن لديها ثروة معدنية تراوح تقديرات قيمتها بين تريليون وثلاثة تريليونات دولار، كما أنها دولة ذات موقع استراتيجي في آسيا.
ويعود عدم الاستقرار السياسي والتخلف الاقتصادي في أفغانستان إلى التركيبة السكانية والصراعات الدينية، إذ إنها تمر بالنزاعات القبلية والعشائرية والإثنية والطائفية بين البشتون والقبائل الأخرى. ويرجع فشل الولايات في السيطرة عليها إلى التضاريس الجبلية القاسية وغياب الرؤية الاستراتيجية لما بعد الاحتلال.