يثير ارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة ذعر البيت الأبيض، فيما يكثف الرئيس الديمقراطي جو بايدن محاولته لإعادة انتخابه في 2024، من خلال الترويج لجهود إدارته في ترويض التضخم الجامح وتعزيز قوة الاقتصاد.
وارتفع سعر البنزين إلى أعلى مستوى له في 9 أشهر، بعد قفزة في أسعار النفط الخام العالمية هذا الصيف بنسبة 20%، متأثرة بخفض السعودية وروسيا الإمدادات، ضمن تحركات لتحالف "أوبك+" لدعم الأسعار والحيلولة دون هبوطها بفعل تباطؤ الاقتصاد العالمي.
وبلغ متوسط سعر البنزين نحو 3.752 دولارات للغالون (يعادل 3.78 لترات). وقال بوب مكنالي، رئيس شركة رابيدان إنرجي غروب لاستشارات الطاقة ومقرها واشنطن والمستشار السابق للرئيس جورج دبليو بوش، إن "البيت الأبيض في حالة ذعر كاملة. ارتفاع أسعار الوقود يؤثر على ثقة المستهلك، ما يهدد شعبية أي رئيس".
وبالفعل، أكد مسؤول في البيت الأبيض، وفق صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أن الإدارة تواصل مراقبة أسعار البنزين عن كثب، لكنه أضاف أنه "من المهم أن نتذكر أن الأسعار لا تزال منخفضة بما يزيد عن الدولار منذ ذروتها الصيف الماضي".
ارتفاع تكاليف مختلف القطاعات
ولم تقتصر زيادة الأسعار على البنزين، وإنما طاولت الديزل أيضا، ما يؤثر بشكل بالغ على تكاليف مختلف القطاعات الصناعية والزراعية والنقل، ما يعيد التضخم إلى الجموح مجدداً ويهدم كل إجراءات البنك الفيدرالي لكبحه، عبر سلسلة زيادة أسعار الفائدة التي انتهجها منذ العام الماضي وكان يأمل أن تؤتي ثمارها بنهاية هذا العام.
ويأتي صعود أسعار الوقود بينما أمضى الرئيس الديمقراطي الأسابيع الأخيرة في الترويج إلى تباطؤ التضخم وخلق فرص عمل قياسية. لكن خصومه الجمهوريين استغلوا الزيادات الأخيرة في الأسعار، وألقوا باللوم على ما أسموها "حرب بايدن على الطاقة الأميركية".
وتتشابك العديد من العوامل في دفع أسعار الوقود في الولايات المتحدة نحو الصعود، والتي يرى محللون أنها مرشحة لمزيد من الاشتعال في الفترة المقبلة، لافتين إلى أن من المتوقع وصول سعر النفط الخام إلى 100 دولار للبرميل بنهاية العام الجاري، بينما كانت معظم التوقعات السابقة تسير باتجاه تحقيق هذا المستوى خلال العام المقبل.
وواصلت أسعار النفط الخام مكاسبها عالمياً، أمس الاثنين، لتلامس أعلى مستوياتها منذ منتصف إبريل/نيسان الماضي، بعدما تعهدت السعودية وروسيا، وهما من كبار منتجي النفط، بمواصلة خفض الإمدادات لشهر آخر بهدف استمرار موازنة الأسواق العالمية ودعم الأسعار.
وسجلت العقود الآجلة لخام برنت نحو 86.5 دولارا للبرميل، بينما ارتفعت العقود الآجلة لخام غرب إلى أكثر من 83 دولارا للبرميل. وحقق الخامان مكاسب لسادس أسبوع على التوالي، في الأسبوع الماضي، وهي أطول فترة مكاسب منذ ديسمبر/كانون الأول 2021 ويناير/كانون الثاني 2022.
وتلقت الأسعار دعماً بفضل عدة عوامل في الأسابيع القليلة الماضية، تشمل توقعات بخفض وتيرة رفع الفائدة الأميركية وتخفيض إمدادات أوبك+ وآمال تحفيز انتعاش الطلب على النفط في الصين، أكبر مستورد للخام في العالم، بعد تعثر في الربع الثاني.
السعودية تمدد تخفيض الإنتاج
ومددت السعودية، أكبر مصدّر للنفط في العالم، الخميس الماضي، تخفيضاتها الطوعية للإنتاج بمقدار مليون برميل يومياً حتى نهاية سبتمبر/أيلول المقبل، وأشارت إلى أنها قد تمددها مجدداً أو تزيد مقدار الخفض.
وسيكون إنتاج المملكة الشهر المقبل حوالي 9 ملايين برميل يومياً. كما قالت روسيا، في نفس اليوم، إنها ستخفض صادرات النفط بمقدار 300 ألف برميل يوميا في سبتمبر/أيلول.
ويبدو أن أسعار النفط مرشحة لزيادات أكبر في الفترة المقبلة، بعدما امتدت قذائف الحرب الدائرة بين كييف وموسكو إلى ناقلات النفط التي تحمل الخام الروسي. وتعرضت ناقلة نفط روسية هذا الأسبوع للقصف بالقرب من شبه جزيرة القرم، مما أدى إلى تعميق المخاوف من أن الهجوم المضاد الأوكراني قد يعطل إمدادات الطاقة.
وتأتي هذه التطورات بينما يعود الطلب على النفط إلى الارتفاع. ووفق تحليل لبنك الاستثمار العالمي غولدمان ساكس، فإن الطلب العالمي على النفط قد سجل رقماً قياسياً جديداً بلغ 102.8 مليون برميل يومياً في يوليو/تموز الماضي، وسط زيادة في السفر جواً وبراً في الصيف، ومرونة اقتصادية في الولايات المتحدة والهند وتضاؤل المخاوف بشأن الاقتصاد الصيني.
وفي السياق، قال جيف كوري، الرئيس العالمي لأبحاث السلع الأساسية في بنك غولدمان ساكس: "تضاءلت المخاوف من الركود في الصين بشكل كبير في الأسابيع الثلاثة أو الأربعة الماضية، وهذا أعاد اهتمام المستثمرين بالنفط". تأتي العوامل الخارجية المؤثرة على أسعار الوقود في الولايات المتحدة، في وقت أثرت عوامل داخلية لا تقل أهمية تتمثل في تراجع المخزون الاستراتيجي من النفط، واضطرابات في عمليات التكرير.
انخفاض مخزونات النفط
ونهاية يوليو/تموز الماضي، أعلنت إدارة معلومات الطاقة الأميركية، أن مخزونات النفط الخام والبنزين ونواتج التقطير تراجعت في الأسبوع المنتهي في الثالث والعشرين من ذلك الشهر.
وانخفضت مخزونات النفط الخام 600 ألف برميل إلى 456.8 مليون برميل، كما هبطت مخزونات البنزين 786 ألف برميل إلى 217.6 مليون برميل.
واضطرت شركة "توتال إنرجي" الفرنسية العملاقة للطاقة إلى وقف العمليات في وحدة داخل مصفاة تكريرها التي تبلغ طاقتها 225 ألف برميل يومياً في بورت آرثر بولاية تكساس، بسبب تسرّب في المضخة. هذا الحادث، إلى جانب الانقطاعات الأخرى في مصافي التكرير، ساهم في الارتفاع الأخير في أسعار البنزين، والذي يتزامن مع ارتفاع أسعار النفط الخام، بحسب نشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة، أمس.
وتتمتع مصفاة بورت آرثر، التي تقع على بعد نحو 160 كيلومتراً شرق هيوستن، بأهمية حيوية، باعتبارها واحدة من منصات التكرير والبتروكيماويات الأولية لشركة توتال في جميع أنحاء العالم، وهي بمثابة أكبر منشأة للشركة في الولايات المتحدة.
ليس هذا هو الاضطراب الأول الذي تواجهه مصفاة بورت آرثر، حيث أبلغت مؤخراً عن تعطل تشغيلي وانبعاثات غازية بسبب اضطراب الوحدة. فضلاً عن ذلك، تعرضت مصافي التكرير الأخرى على طول ساحل الخليج الأميركي أيضاً إلى اضطرابات وانقطاعات في الآونة الأخيرة، حيث أغلقت مصفاة "إكسون موبيل" في باتون روج بولاية لويزيانا بشكل غير متوقع وحدتها لإنتاج البنزين. وأدى هذا الوضع إلى زيادة في العقود الآجلة للبنزين في الولايات المتحدة.
ورغم أن متوسط أسعار البنزين في الولايات المتحدة لا يزال منخفضاً عن مستويات العام الماضي، إذ قفز إلى معدلات قياسية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية فبراير/شباط 2022، إلّا أنها تظل أعلى بنحو 60% مما كانت عليه عندما تولى بايدن منصبه.
مخاوف من تسليح روسيا للنفط
ويشعر مراقبو السوق بالقلق من أن تختار روسيا تسليح صادراتها النفطية (استخدامه كسلاح) العام المقبل، لمحاولة التأثير على الانتخابات الأميركية، بطريقة مشابهة لقرارها بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا العام الماضي.
وأشار المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب مؤخراً إلى أنه سيحاول إجبار أوكرانيا على التفاوض مع روسيا إذا جرى انتخابه، لافتاً إلى أن ارتفاع الأسعار في المضخات له القدرة على التأثير على الانتخابات القريبة.
في السياق، قال دان يرغين، نائب رئيس مؤسسة "ستاندرد آند بورز غلوبال" للخدمات المالية، لصحيفة فايننشال تايمز: "فلاديمير بوتين يفهم ديناميكيات السوق جيداً".
ويقول محللون إن البيت الأبيض ستكون لديه قدرة أقل على احتواء قفزات الأسعار الجديدة بعد السحب من مخزونات الطوارئ العام الماضي لتهدئة أسعار الوقود، مما يترك الاحتياطي النفطي الاستراتيجي عند أدنى مستوى له منذ عام 1984.
وقال المحللون إن الولايات المتحدة قد تحتاج إلى مطالبة السعودية التي تقود "أوبك" بالمساعدة مرة أخرى، على الرغم من أن بايدن كان أقل قدرة على التأثير على سياسة إمدادات النفط في الرياض من ترامب.
وبحسب هيليما كروفت من "آر بي سي كابيتال ماركتس"، فإن الخيار البديل لواشنطن هو "التأكد من وجود علاقات أفضل مع المملكة العربية السعودية، للتأكد من أن الرياض تتدخل إذا خرجت أسعار النفط عن السيطرة".
ولا يقتصر القلق على إدارة بايدن، وإنما يستعد السياسيون من واشنطن إلى أوروبا لتداعيات الارتفاعات المتجددة في أسعار الوقود. وعززت حكومة ريشي سوناك في بريطانيا، الآمال في تعزيز إنتاج النفط والغاز من بحر الشمال لزيادة أمن الطاقة، وذلك على الرغم من الالتزامات بشأن تغير المناخ.
وقال نائب رئيس مؤسسة ستاندرد آند بورز غلوبال لصحيفة فايننشال تايمز: "إذا دخلنا الخريف مع ارتفاع الطلب وضيق العرض، فسوف يستمر الضغط التصاعدي".