أزمات الاقتصاد التركي ونظرية شيمشك وحفيظة غايا

19 يونيو 2023
عانى الاقتصاد التركي على مدار الشهور الماضية من آفة التضخم (Getty)
+ الخط -

وصل معدل التضخم في تركيا إلى حدود 85.5% في أكتوبر/ تشرين الأول 2022 قبل أن يبدأ بالهبوط ليصل في مايو/ أيار 2023 إلى 43.68%، وكانت هذه القضية إحدى القضايا التي رجّحت اختيار المرشحين في انتخابات الرئاسة التركية في مايو ،2023 .

ومن ثم اعتبار الرئيس المُنتخب رجب طيب أردوغان هذه "الآفة" على سُلم أولويات الحكومة، فسلّم الحقيبة الاقتصادية "المالية والخزانة" لـ"محمد شيمشك" والذي يوصف بـ"صديق الأسواق" وأحد الوزراء السابقين الذين وضعوا الاقتصاد التركي في سباق التحديث والتطوير، وأعطى إدارة البنك المركزي للسيدة حفيظة غايا، وهي أيضاً خبيرة مالية دولية، ولديها سيرة ذاتية لا يُستهان بها، وشهاب أوغلو في رئاسة هيئة تنظيم ومراقبة القطاع المصرفي.

يُضاف لهذه الأسماء وزراء الزراعة والصناعة والتجارة والطاقة والعمل، لينتظر الشعب التركي حلولاً لأكبر مشكلة تواجه الاقتصاد.

لا تبتعد أزمة الاقتصاد التركي عن أزمات الاقتصادات الأخرى من حيث المبدأ، وعليه سيكون العلاج والحل من جنس النظرية المتبعة، وابتداءً لا بد من الدخول في عمق المدارس الاقتصادية للتعرف على النظرية التي سيستند إليها الوزير محمد شيمشك في الأيام المقبلة، والتعرف أكثر على السؤال الجوهري الذي يدور حوله الاقتصاد السياسي: قيمة السلعة؟ كيف تتحدد هذه القيمة وكيف يجري إنتاجها وزيادتها وتوزيعها؟ 

مدارس اقتصادية: كلاسيكية وجديدة

منذ القرن السابع عشر ونشوء المدارس الاقتصادية يحاول الاقتصاديون التفكير في طرق لزيادة ثروة الدولة وتحقيق الاستقرار العام في الأسعار والوظائف والنمو بدون إدخال الاقتصاد في التضخم والبطالة والركود.

ولو عدنا مائتي سنة إلى الوراء وسألنا الاقتصاديين الذين ينحدرون من المدرسة النيوكلاسيكية مثل ألفريد مارشال، وكلارك، وجون ستيوارت ميل، وجون ماينارد كينز، والنقديين عن نظرتهم لتحديد ثمن السلعة، ستتمحور الإجابة حول ثنائية العرض والطلب، وأن قيمة السلعة تتحدد من خلال المنفعة، والطلب هو محدد السعر، وبالتالي سيتوقف تحديد الثمن على طلب المستهلك وحجم المنفعة المتحصل من السلعة.

تتحد قيمة السلعة بنظر الاقتصادي الفرنسي ليون فالراس تبعاً للندرة والمنفعة، ويعتبر كارل منجر، من المدرسة النمساوية، أن السلعة لن يكون لها قيمة اقتصادية ما لم يكن عليها طلب، وأن قيمة السلعة يجب أن تكون مهيأة لإشباع حاجة إنسانية معينة.

أما جون ماينارد كينز فقد بنى نظريته على جانب الطلب، حيث يؤيد تدخل الحكومة وزيادة الإنفاق العام وتخفيض الضرائب، بهدف تحفيز الطلب، على الجانب الآخر رفض ميلتون فريدمان وجورج ستيغلر، من مدرسة شيكاغو النظرية الكينزية، تدخلات الحكومة بالاقتصاد.

وأيّد فريدمان السوق الحرة والخصخصة وتخفيض الضرائب وحرية الفرد وتوسيع التجارة، وارتبط اسمه مع الاقتصادية آنا شوارتز بالنظرية النقدية التي ترى أن المعروض النقدي في الاقتصاد هو الذي يحدد مستوى الأسعار على المدى الطويل، ومن خلال السياسة النقدية يمكن التأثير بكمية النقود في الاقتصاد والأداء الاقتصادي ككل.

سنعود الآن إلى الكلاسيك في القرن الثامن عشر، حيث انشغل رجالات الاقتصاد السياسي الأوائل بتعريف القيمة ومصدر الثروة، وابتداءً من آدم سميث الذي صاغ فرضياته على المصلحة الشخصية التي تحفز الناس، وتكفل السوق أو اليد الخفية في تحويل المصالح الشخصية إلى مصلحة جماعية.

ورأى أن العمل المنتج للسلع والخدمات هو المقياس الحقيقي للثروة، أي إن العمل منشأ القيمة ومصدر الثروة، وأسس لضرورة اعتماد الدول على مبدأ التجارة الحرة، وذهب ديفيد ريكاردو بالتفكير ذاته إلى أن العمل هو وحده من يحدد القيمة التبادلية وليست المنفعة، وتوافق سميث وريكاردوا على قدرة السوق على التسوية بين الأعمال المختلفة.

لم يخالفهما كارل ماركس بأن قيمة السلعة تقاس بالعمل الذي تضمنته تلك السلعة، والأخيرة تقاس بالوقت الذي يبذل خلاله العمل في سبيل إنتاجها، وزاد عليهما بفائض القيمة وتراكم الرأسمال اللذين جعلاه يتنبأ أن الرأسمالية ستنتج توترات داخلية في النظم الاجتماعية ستؤدي لتدميرها ذاتياً واستبدالها بالاشتراكية.

بالعموم مع القرن التاسع عشر أصبحت القيمة تفسر من جانب العرض والطلب، وليست من كمية العمل والعمليات المطلوبة لإنتاجها، وبينما كان الهدف الرئيسي للإنتاج هو تلبية احتياجات المجتمع وإشباع الاحتياجات البشرية برأي الكلاسيك، أصبح بنظر النيوكلاسيك وسيلة لتحقيق الأرباح من خلال تلبية الطلب الموجود في السوق، وجرى تكريس معنى الاستهلاك لرفع المبيعات وتحقيق الأرباح.

استجابت الدول بعد الكساد الكبير 1929 والحرب العالمية الثانية لدعوات كينز إلى زيادة الإنفاق العام لتحفيز النشاط الاقتصادي، داعياً إلى استخدام السياسة النقدية في إنفاق الأموال لتحفيز الطلب العام وتخفيف آثار الركود.

ومن ثم تحول العالم إلى أفكار ميلتون فريدمان بعدما ضرب الركود التضخمي أميركا وبريطانيا في سبعينيات القرن الماضي، حيث جادل فريدمان وزملاؤه في قدرة التدخل الحكومي على تنظيم دورة الأعمال بشكل إيجابي، وأن زيادة المعروض النقدي ستزيد من معدلات التضخم.

لا تزال هذه الآراء تؤثر في القرارات الاقتصادية إلى يومنا هذا، وتدمج معظم دول العالم بين تلك النظريات حسب الحاجة والظروف التي تمر بها البلد.

في أميركا مثلاً تعتمد الحكومة على مجموعة من النظريات الاقتصادية، حيث تقر الحرية الاقتصادية والتجارة الحرة ودور القطاع الخاص في تحقيق الازدهار الاقتصادي والعرض والطلب في تحديد الأسعار، وتطبّق تارة نظرية فريدمان للتأثير على العرض النقدي، وتارة أخرى تلجأ لكينز لتحفيز الطلب.

ليست عصا سحرية بل العودة للسياسة التقليدية

الاقتصاد التركي جزءٌ من المنظومة الاقتصادية الدولية، انتقل من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي في تسعينيات القرن الماضي، وبدأت الحكومة تبني سياسات اقتصادية تعزز السوق الحرة والاستثمار الخاص محركاً للنمو الاقتصادي، مع حفاظها على التدخل في بعض القطاعات الحيوية.

ينتمي كل من وزير المالية والخزانة محمد شيمشك ورئيسة البنك المركزي حفيظة غايا للمدرسة النقدية في الرأسمالية، درسا وعملا في المؤسسات المالية في إنكلترا وأميركا، على رأسها مصرفا "ميريل لينش" و"غولدمان ساكس" الاستثماريين.

وفي أولى تصريحاته تعهّد شيمشك بالعودة إلى سياسات اقتصادية "عقلانية"، وأنه لا خيار أمام بلاده سوى العودة إلى "أساس منطقي" في السياسات الاقتصادية لضمان القدرة على التنبؤ بتبعاتها، مؤكداً "ستكون الشفافية والاتساق والقدرة على التنبؤ والامتثال للأعراف الدولية مبادئنا الأساسية في تحقيق هذا الهدف".

قبِل شيمشك تركة ليست سهلة، إذ عانى الاقتصاد التركي على مدار الشهور الماضية من آفة التضخم، فانخفضت القوة الشرائية، وانتشر عدم اليقين الاقتصادي.

وكابد ذوو الدخل المحدود من ارتفاع التكاليف والأسعار، ما أدى لاختلالات في توزيع الثروة وضعف الاستثمار وقلة النشاط الاقتصادي العام، ووصل معدل التضخم إلى 43% في مايو/ أيار الماضي.

وجرى خفض معدلات الفائدة إلى 8.5%، واستمرت عتبة الإنفاق العام في أعلى مستوياتها مع نمو الاقتصاد في الربع الأول من العام الحالي بنحو 4%، وبلغ عجز الحساب الجاري 5.4 مليارات دولار، وانخفض صافي الاحتياطي الأجنبي بأكثر من 33 مليار دولار منذ نهاية عام 2022، وفقدت الليرة زهاء 20% من قيمتها منذ بداية هذا العام فقط بعدما تجاوزت عتبة 23 ليرة أمام الدولار.

أمام هذه البيانات سيلجأ شيمشك إلى النظرية التي ينتمي إليها ويقرأ من كرّاسات السوق الحرة والنظرية النقدية، من خلال اعتماد مبدأ الشفافية، وتعزيز جسور الثقة مع الأسواق، بحيث تصبح القدرة على التنبؤ أكثر واقعية ومنطقية وعدم التدخل في سوق الصرف.

وهو ما بدا واضحاً خلال الأيام الماضية، من خلال التوقف عن بيع العملات الأجنبية في السوق، وترك مسألة تحديد قيمة الليرة للسوق.

ثاني السياسات المتوقع تطبيقها، رفع أسعار الفائدة للتحكم بالعرض النقدي، وتقليل الاقتراض، وتوجيهه بشكل يتناسب مع احتياجات الاقتصاد ومعدلات النمو، ومن المقرر عقد أول اجتماع للجنة السياسة النقدية للبنك المركزي في 22 يونيو/ حزيران الجاري، حيث يتوقع رفع معدل الفائدة إلى أكثر من 20% ضمن سياسة كبح جماح معدلات التضخم.

ومن بين السياسات المالية التي من المتوقع اتباعها زيادة الضرائب وتقليص الإنفاق العام، وإلغاء المشاريع الكبيرة لتقليل الطلب، وخفض الأسعار، كما يمكن الاعتماد على ماكينة الإنتاج التركية عبر زيادة الإنتاجية، للمساهمة في زيادة الإنتاج بتكاليف أقل.

وأخيراً تقليل الواردات بالأخص بعد اكتشاف النفط والغاز، وبدء عملية الاستخراج بالشكل الذي يقلل من تكاليف الإنتاج ويساهم في خفض الأسعار.

أخيراً، بالفعل ليس بيد الفريق الاقتصادي الجديد عصا سحرية لحل أزمات الاقتصاد، لكن بيده تطبيق السياسات الاقتصادية التقليدية بحذافيرها، للخروج من المأزق الذي وُضع فيه خلال الأعوام الماضية.

المساهمون