تناولت في العديد من المقالات السابقة ارتفاع الدَيْن المصري، خاصة الجزء الخارجي منه، مسلماً بفرض ظهور وانتشار وباء كورونا المستجد، ثم أوامر الإغلاق الكبير من بعده، زيادة الاقتراض على الكثير من الدول، بما فيها الاقتصادات الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، من أجل مساعدة اقتصاداتها على استعادة حيوتها، وتعويض المتضررين من الأفراد والشركات بعد تراجع مدخولاتهم خلال الأشهر الأخيرة.
ومع إقراري بأن أغلب الاقتصاديين، من مختلف التيارات والمدارس، أقروا باللجوء إلى القروض خلال الفترة الحالية، من أجل توفير الأموال اللازمة لحزم إنقاذ الاقتصاد ومساعدة المواطنين، رفضت تطبيق المنطق نفسه على الحالة المصرية، بعدما بدا واضحاً عدم وجود علاقة بين ما اتفقت الحكومة المصرية على اقتراضه وما احتاج إليه المواطنون المصريون وشركاتهم من مساعدات، لم يقدمها لهم أحد حتى الآن.
وعلى عكس ما قامت به أغلب حكومات العالم، وتحديداً في الاقتصادات الكبرى ودول الخليج، كما العديد من الاقتصادات الناشئة، لم تفرض مصر إغلاقاً حقيقياً في أي وقت من الأوقات، ولم تفرض حظراً للتجول إلا لساعات قليلة في الليل، الأمر الذي نفى بوضوح احتياج الشركات الكبرى لأي مساعدات مالية. وسواء احتاجت تلك الشركات أم لم تحتج، لم تقدم لها الحكومة المصرية أي مساعدة.
وتضررت بعض المطاعم والمقاهي من أوامر حظر التجول التي كانت في أوقات الذروة بالنسبة لأغلبها، إلا أنها ما لبثت أن عادت إلى مواعيدها المعتادة بعد فترة قصيرة، واستأنفت أعمالها بعد رفع أسعارها لتعويض خسائر الفترات السابقة، ومرةً أخرى، لم تقدم لها الحكومة المصرية أي مساعدات.
وعلى عكس ما قدمته أغلب الحكومات الرشيدة من إعانات للشركات، لتحفيزها على الاحتفاظ بالعمالة لديها، لم تتدخل الدولة المصرية للحفاظ على العمالة لدى تلك الشركات، الأمر الذي نتج عنه فقدان العديد من المواطنين لوظائفهم. وفي حين تشير بيانات الجهاز المركزي المصري للتعبئة والإحصاء إلى توجه الأسر المصرية إلى تخفيض إنفاقها على اللحوم والسلع الغذائية الأخرى، كما بيع بعض أصولها، لمواجهة تبعات الجائحة، تؤكد بيانات الجهاز نفسه أن 50% من الأسر المصرية لجأت للأهل والأصدقاء للاقتراض، لمواجهة أزمة ستكون على الأرجح أطول مما توقع الكثيرون.
وكانت أكبر ضحايا الجائحة في مصر نسبة كبيرة من العمالة غير المنتظمة، التي تعمل بلا عقود، ويسهل الاستغناء عنها عند عدم وجود حاجة إليها، أو عند الخوف من انتقال الأمراض المعدية، كما كان الحال خلال الأشهر الماضية. ورغم تعهد الحكومة المصرية بتعويض هذه النوعية من العمالة، لم يحصل على مساعدات الدولة أكثر من مليوني مواطن، من أصل 12 مليونا يشملهم التعريف، وجاءت تلك المساعدات من صندوق خارج الموازنة العامة للدولة، تم إنشاؤه في أعقاب ثورة يناير 2011، ويتم تمويله باقتطاع نسب من مستحقات شركات المقاولات.
لم تقدم الحكومة المصرية تعويضات بطالة، ولم تقدم مساعدات مباشرة للمواطنين، ولم تقدم مساعدات للشركات الصغيرة التي تضررت بالفعل من الجائحة، وإنما قلصت الدعم، ورفعت أسعار الكهرباء، ولم تخفض أسعار الوقود رغم انخفاض الأسعار العالمية، وفرضت رسوما ضخمة للتصالح في قضايا بناء مخالف تمت منذ سنوات، كما توسعت في رفع قيمة مخالفات الطرق ورسوم استخراج الرخص للسيارات والعقارات.
ورغم كل ما سبق، توجهت الحكومة المصرية إلى صندوق النقد الدولي، واتفقت على اقتراض ما يقرب من 8 مليارات دولار، كما أصدرت سندات دولية بقيمة تقترب من 6 مليارات دولار، واتفقت مع البنك الدولي ومؤسسات مالية أخرى على اقتراض مليارات أخرى. وفي الوقت الذي بخلت فيه الحكومة المصرية على المواطنين، كانت الحجة الأساسية التي تقدمت بها لتلك المؤسسات للاقتراض هي تحفيز الاقتصاد وتعويض المتضررين من مواطنيها.
ما أسوقه هنا ليس استنتاجات شخصية، وإنما هو الرأي المتداول في أوساط المتابعين للشأن المصري في الولايات المتحدة من عاملين في بعض المؤسسات التي أقرضت الحكومة المصرية. وفي حين يشعر هؤلاء بالقلق من عدم وجود خطة توضح الكيفية والتوقيت اللذين يبدأ فيهما الدين المصري في الانخفاض، بعد اقترابه من ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل 5 سنوات، ووصوله إلى 123 مليار دولار، لا يجرؤ أي من هؤلاء على التصريح بمخاوفه، التي تتعارض مع رغبة تلك المؤسسات في إقراض الحكومة المصرية، لأسباب يعلم الجميع أنها سياسية، ولا علاقة لها بحالة الاقتصاد المصري.
وفي عددها الأخير، أكدت مجلة الإيكونوميست الشهيرة، أن الحكومة المصرية، كما العديد من الحكومات في دول الخليج العربي، زادت من اقتراضها خلال الفترة الماضية، مستغلة ظروف الجائحة التي ضربت أغلب بلدان العالم، إلا أنها لم تقدم إلا القليل لتحفيز الاقتصاد وتعويض المواطنين.
وفي حين أشارت المجلة إلى أن أغلب الدول الخليجة لا يبدو الأمر مقلقاً فيها، بسبب وجود أضعاف ما تم اقتراضه في احتياطيات النقد الأجنبي وفي صناديق الثروة السيادية الخاصة بها، لا ينطبق الأمر نفسه على الحكومة المصرية، التي تزامن ارتفاع الدين الخارجي لديها مع انخفاض احتياطي النقد الأجنبي الذي تمتلكه، رغم ألاعيب البنك المركزي المصري الصبيانية التي تظهر ارتفاع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار خلال الفترة نفسها.
وفي حين قدرت المجلة ارتفاع نسبة الدين العام المصري إلى الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 90% بحلول عام 2021، وهو ما سيستنزف تقريباً كامل إيرادات الدولة خلال العام، ويزيد من الضغوط على المالية العامة، بعد وصول قيمة خدمة الدين إلى ما يقرب من 9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ورغم تأكيدها أن الحكم الاستبدادي للسيسي قضى على مخاوف عدم الاستقرار السياسي، أشارت المجلة إلى أن الحكومة المصرية يتعين عليها أن تكون حذرة في تعاملها مع الديون الخارجية، كما مع عودة استثمارات الأجانب في أذون الخزانة بالعملة المحلية، بعد تجربة هروبها خلال الأسابيع الأولى التي تلت ظهور الجائحة.