تعيش جميع المدن العربية التي كان للاستعمار دور بارز في تطوّرها العمراني على وقع ازدواجية إشكالية، حيث تتقاطع فيها وجهة نظر المستعمر القديم، وقد كان له تاريخ شخصي مع تلك المدن، فيرى أن له أيادي بيضاء في خلق واجهة مرموقة خاصة في الجانب المعماري، فضلاً عن الدور التنويري. وذلك بعكس الرؤية الأهلية التي تنبذ فترة الاستعمار بكل ما خلفته. هذا الاختلاف بات جزءاً من هوية تلك المدن ربما.
كانت مناسبة استضافة الكاتبة البلجيكية أميلي دارشو Amélie d'Arschot في "المركز الثقافي الفرنسي" بالقاهرة الأسبوع الماضي فرصة للتعرّف عن قرب وبشكل دقيق على وجهة نظر تتناول بفخر ما فعله الرجل الأبيض في مصر خلال فترة الاحتلال الإنكليزي.
تعمل دارشو مديرة لـ"الرابطة الملكية للمنازل التاريخية" في بلجيكا، وهي إلى ذلك حفيدة بوغوس نوبار باشا، رئيس وزراء مصر إبان حكم الخديوي إسماعيل، وقد أطلقت العام الماضي كتابها "رواية هليوبوليس" بالفرنسية وفيه تحدثت عن منطقة مصر الجديدة التي تقول إن الأجانب وعلى رأسهم البارون إدوارد إمبان وجدّها نوبار باشا، إلى جانب عدد كبير من المهندسين البلجيكيين بوجه خاص، شيدوها من العدم في قلب الصحراء.
هليوبوليس هو الاسم اليوناني لـ "أون" وتعني مدينة الشمس، وهي منطقة صحراوية بالطبع مثلما وصفتها دارشو لكنها كانت وما زالت امتداداً لمدينة الشمس الأثرية المدفونة في المنطقة الواقعة من العباسية مروراً بالمطرية وعين شمس ولا تزال الحفريات الأثرية تستكشف وتستخرج من باطنها آثاراً تعود للأسرة الفرعونية الأولى.
تقول دارشو: "إن منطقة مصر الجديدة تحكي تاريخ كتيبة كبيرة من المعماريين والتجار والسياسيين ممن قرّروا تشييد مدينة تمزج بين الثقافات الشرقية لتكون منتجعاً للأجانب والنبلاء من داخل مصر وخارجها، واستراحة لقادة الجيش البريطاني ممن كانت ثكناتهم تقع بالقرب من مصر الجديدة ومتمركزة بشكل أساسي في منطقة العباسية". وتشير دارشو إلى أن جدها نوبار باشا استطاع بفضل علاقته الوطيدة بالسلطان حسين كمال الحصول على سبعة آلاف هكتار من الأراضي بسعر زهيد للغاية لإقامة المشروع الذي بدأ العمل عليه في بداية القرن العشرين.
يعود حضور أسرة دارشو في مصر إلى العام 1807، وتعتبر الكاتبة البلجيكية أن عائلتها كانت تعيش حياة نخبوية من الدرجة الأولى، بين قصر العائلة في منطقة شبرا، وقصر آخر بالقرب من مينا هاوس جوار الأهرامات، وهو ما جعل للعائلة ولعاً كبيراً بمصر التي كانت ممتلئة بكل مظاهر الشرق، فأراد جدها أن يخلق مدينة في قلب الصحراء تتجلّى فيها كل مظاهر الشرق لكنها صالحة لحياة النخبة ورفاهيتها.
زواج جدة أميلي دارشو من الكونت فيليب دارشو الذي عمل كرئيس أركان الملك ألبير الأول ملك بلجيكا جعل للعائلة امتداداً في بلجيكا وهو ما أفاد الأسرة في إقامة مشاريع استثمارية بمعاونة كبار الساسة في مصر وبلجيكا والباب العالي.
تقول دارشو: "لقد أراد جدي نوبار باشا والبارون إدوارد إمبان إقامة مشروع استثماري يحقق أرباحاً وفيرة من جيوب طبقة النبلاء، وكان العائد المتوقع من بناء المدينة سيتحقق بعد خمسة عشر عاماً إثر الانتهاء من خطة البناء وبيع المباني واستئجارها، وبالفعل كانت مصر الجديدة مشروعاً استثمارياً ناجحاً إلى جانب كونه صفحة جميلة أضافها البلجيكيون لتاريخ مصر".
ما تحكيه دارشو عن خطة بناء المدينة وإقامة سور يعزلها تماماً عما هو خارجها، وتوفير حراسة خاصة للسكان، وخط ترام خاص وشبكة كهرباء ومطار مخصّص للأجانب القادمين إلي مصر الجديدة من أوروبا، يذكر بكل المنتجعات والمدن المغلقة (الكومباوندات) بل أيضاً بخطة العاصمة الإدارية الجديدة التي ترسم بشكل واضح خطة لعزل الناس والطبقات والعمران لكن ما ميّز مصر الجديدة عن غيرها هو كتيبة المعماريين الذين عملوا على تشييد مباني تلك المنطقة بفنية وحرفية عالية.
تشير دارشو إلى أن ألكسندر مارسيل وليو بول وأرنست غاسبر الذين عملوا على تشييد الواجهة المعمارية لمصر الجديدة جميعهم عشقوا الطراز المعماري العثماني والفاطمي والمملوكي فتأسس معمار المدينة ضمن هذه النظرة مع مراعاة المساحات الخضراء الواسعة والتهوية العالية للمنازل من خلال الشرفات والأبواب الواسعة العالية.
تضيف: "لم يكن هناك بحر أو مسطح مائي في مصر الجديدة كعادة المنتجعات التي يفضّلها الأجانب لذا عمل المعماريون على أن يكون زبائنهم في مصر الجديدة مدللين للغاية فأنشؤوا لهم ملعب غولف ومضماراً لسباق الخيل ومطاراً".
لم ينس البارون إدوارد إمبان تشييد منزل خاص به في مصر الجديدة، وعنه تقول دارشو: "أنشأ أحد أهم معالم مصر الجديدة إلى اليوم، وهو قصر البارون الذي جمع بين التراث الهندي وطراز الموريسك الخاص بشمال إسبانيا وطراز لويس السادس عشر، واختار أن يكون قصره في قلب المدينة كما لو كان إلهاً على عرشه في وسط مدينته التي شيدها". أنشأ البارون إدوارد إمبان أيضاً كنيسة البازليك وأوصلها بقصره بممر خاص وشيدت الكنيسة على طراز كنيسة آيه صوفيا في إسطنبول وأوصى بأن يدفن فيها وهو ما حصل بالفعل.
ضمن محاضرتها، انتقدت إيميلي دارشو نظام جمال عبد الناصر الذي سمح برأيها في تشويه الصورة العريقة للمنطقة. تقول: "اعتبر عبد الناصر أن هناك ثمانية ملايين مصري بلا مأوى، وسمح بأن تُشَيّد لهم مساكن شعبية ملاصقة لمصر الجديدة فاصبحت المساكن العامة تجاور الفيلات والقصور. لقد شوهت هذه المنازل العشوائية ما بناه إمبان".
تحدثت دارشو أيضاً عن أشهر قصور مصر الجديدة كما لو كانت إرثاً عائلياً مستحقاً، حيث تذكر: "تحوّل قصر هليوبوليس إلى القصر الرئاسي وهذا شيء جيد، وأصبح قصر البارون وقصر نوبار باشا في حوزة وزارة الدفاع؛ كنا وما زلنا نرغب أن يتم توضيح مصير هذه القصور ألسنا إلى اليوم ما زلنا نقول مدينة البارون؟ قصر البارون؟".