في السابع والعشرين من أيار/ مايو الماضي، كتب ممثّل مسرحي شاب يُدعى هيثم حساسني منشوراً في حسابه على فيسبوك يُعبّر فيه عن امتعاضه ممّا وصفه برداءة الأعمال التلفزيونية الجزائرية التي عُرضت في رمضان، مُوجّهاً نقداً لاذعاً إلى المخرجين والمنتجين الذين قال إنهم يعتمدون على أشخاصٍ قادمين من وسائل التواصل الاجتماعي ولم يسبق لهم أن وقفوا على خشبة المسرح، بينما يُهمّشون خرّيجي المعاهد الفنية، ومن بينها "المعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري" في برج الكيفان بالجزائر العاصمة، والذي تخرّج منه عام 2018.
لم ينتبه الكثيرون إلى المنشور، وربما كان سيمرُّ مرور الكرام، كغيره من المنشورات الكثيرة التي يُعبّر فيها فنّانون عن استيائهم من واقع المشهد الفنّي والثقافي الجزائري، حيث يعتبرون أنه يُقصيهم لصالح من يَعتبرونهم دخلاء عنه، لولا أنّ صاحبه قرّر وضع حدٍّ لحياته بعد أربعة أيام مِن ذلك.
وذكرت وسائل إعلام محلية أنَّ هيثم حساسني (1997 - 2020) أنهى حياته صباح الإثنين الماضي في أحد ملاعب كرة القدم بمدينة قالمة، شرقي الجزائر، حيث يُقيم، ونقلت عن أفراد من عائلته قولهم إنّ مسؤولين في القطاع الثقافي في ولايته رفضوا عدّة مرّات استقباله وإشراكه في الإنتاجات المسرحية، كما أنه لم يتمكّن من الحصول على "بطاقة الفنّان" التي تمنحها وزارة الثقافة للكتّاب والفنّانين.
وبينما أثارت الحادثة استياء كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي وربطها كثيرون بـ "الواقع المزري" الذي يعيشه الفنّان الجزائري، تأخَّر تعليق وزارة الثقافة إلى غاية الخميس؛ حين نشرت وزيرة الثقافة مليكة بن دودة على حسابها في فيسبوك منشوراً قصيراً ترحّمت فيه على روح الفنّان الشاب، وأضافت: "كلُّ مساعينا لبناء مشهدٍ ثقافي قائم على المهنية والاحتراف وجامع بلا إقصاء، ليحظى الفنّانون الجزائريون من كلّ الأعمار والفئات بحظوظهم". غير أنَّ الوزيرة لم تُعلن عن فتح تحقيقٍ حول ما جرى تداولُه بخصوص إقصاء الفنّان ورفض مسؤولي المؤسّسات الثقافية في مدينته استقبالَه.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول زيتوني حربوش، الذي درس التمثيل مع هيثم حساسني في "المعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري" وتخرّجا في الدُّفعة نفسها قبل سنتين، إنَّ هيثم كان شابّاً طموحاً وموهوباً التحق بالمعهد ليصقل موهبته ويتعلّم التمثيل على أُسسٍ أكاديمية، وكان يحلم بمستقبلٍ مشرق، مُضيفاً: "بعد التخرّج، بدا المستقبل على غير ما تصوّرناه... بعضُنا أكمل دراسة الماستر وبعضُنا قرّر الهجرة كما فعلتُ، ووجد آخرون أنفسهم بلا عمل كما هو الحال بالنسبة إلى هيثم".
يضيف: "بقينا على تواصُل طيلة هذه الفترة، وكثيراً ما كان يُعبّر لي عن رغبته في دراسة تخصُّص آخر لأنَّ الفن لا يضمن عيشاً كريماً لصحابه، وأيضاً عن رغبته في الهجرة إلى فرنسا لإكمال دراسته. كان يقول إنّ الوضع هنا ميؤوسٌ منه".
مِن جهته، يُعلّق الشاعر والمسرحيّ رمزي نايلي قائلاً: "هيثم لم يقُم إلّا بما عجزنا عن فعله، في سياق جزائري يبحث عن ضحايا جدد... ضحايا المدرسة، ضحايا الأحلام، وضحايا أفق يزداد انغلاقاً ولا نملك حتّى حقّ التعبير عن ذلك. الانتحار في الجزائر بات واقعاً في ظلّ الموت الذي نشهده يومياً: موت المسرحية والفيلم والموسيقى، وانتحارُ هيثم - حتى وإن كانت دوافعه مجهولة - دليلٌ على فشل المنظومة الثقافية والسياسية في الجزائر".
يرسم نايلي - الذي درس هو الآخر في "معهد برج الكيفان" (تأسّس سنة 1964) وخاض خلال ذلك تجربة إضراب عن الطعام (2013) مع طلبة آخرين للمطالبة بتسوية مُشكلة عدم اعتراف المؤسّسات الحكومية بشهاداتهم - صورة قاتمة عن المعهد؛ إذ يقول: "أن تدرُس في معهد الفنون الدرامية بكلّ تركته الفنية والنضالية، مُتشبّعاً بروح السؤال والطموح، فمعنى ذلك أنه سيُصيّرك كائناً هشّاً، تتقاسم غرفتك مع ديدمونة وتُنصت إلى مونولوغك الداخلي بصوت عُطيل الذي يُلحّ عليك في كل مرّة على أن تضع حدّاً لهذه المهزلة الذي تعيشها".
يُضيف في حديثه إلى "العربي الجديد": "فكرة الانتحار في معهد برج الكيفان تتغذّى وتنتفخ لتصير منطاداً يأخذك إلى أحلامك. وإضرابُ الطلبة عن الطعام في 2013 كان تمريناً تطبيقياً له. تصوَّر أنّنا كُنّا نُفاوِض المسؤولين بحياتنا، وكُنّا نكتب نصوصاً مسرحيةً تدور حول الموت، وكان أعمقُها نصُّ "انتحار الرفيقة الميتة" الذي كتبه عدلان بخّوش تحت وطأة الجوع وقلّة التدخين". هنا يُشير إلى أنَّ المعهد شهد محاولات انتحار أُخرى قبل 2013؛ من بينها محاولةُ طالب مسرحٍ من مدينة تلمسان وضع حدّ لحياته قبل أن يُنقذه بعض الأصدقاء في اللحظة الاخيرة، "لكن الموت بقي لصيقاً به إلى أنْ رحل العام الماضي"، يختتم حديثه.
الصورةُ نفسُها تُقدّمها الممثّلة المسرحية حنان بوجمعة التي جمعتها بالمعهد تجربةُ إقامةِ دورةٍ تدريبية في فنون العرض مُوجّهةٍ لطلبته قبل سنوات: "في 2009، كنتُ ضمن فريق معهدٍ أوروبي اختار الجزائر لتكون محطّةً لبرنامج تدريبي يُقدّمه كلّ سنةٍ في بلدٍ عربي مختلف. اتصلنا بالمعهد الذي وافق على احتضان البرنامج، لكنْ حين حان الموعد بعد سنةٍ من ذلك، اكتشفنا أنه لم يهيّئ أيّة فضاءاتٍ لذلك، وأكثر من ذلك، لم يُعلم الطلبة بالبرنامج حتى، رغم أنَّ كلَّ ما كان مطلوباً منه هو توفير فضاءات التدريب واخيار الطلبة المشاركين؛ بينما يُموّل المعهد الأوروبي كلّ شيء".
من هنا، تنطلق بوجمعة للحديث عمّا تصفه بالتعفّن الإداري الذي تقول إنّ المعهد يغرق فيه، مضيفةً: "الإدارة تقتُل الفنّان وتُجهز على مواهبه وأحلامه. وإنْ كان هيثمُ قد وضع حدّاً لحياته، فإنَّ الإدارة وفّرت للفنّانين كلّ أسباب الموت الرمزي والمعنوي".
وتُشير بوجمعة، في حديثها إلى "العربي الجديد"، إلى أنَّ من بين أسباب هذا الوضع المتردّي غياب سياسة ثقافية وفنّية، وعدم إسناد الوظائف الإدارية إلى المتخصّصين، مضيفةً أنَّ المشاكل الحقيقية في القطاع الفنّي تتمثّل في غياب خريطة طريق تُنظّم القطاع، ووضعية قانونية للفنّانين، وغياب التدريب، وتوزيع العروض، وقلّة قاعات العرض، وغياب الجمهور، مشيرةً إلى أنَّ وباء كورونا أكّد هشاشة هذا القطاع.
كما تلفت المتحدّثة إلى ما تسمّيه غياب نخبة بمستوى تطلّعات الفنّانين والمثقّفين، قائلةً إنّ النظام عادةً ما يلجأ إلى إسناد مناصب إدارية إلى المنتقدين لإسكاتهم، بدل أن يُفكّر في إيجاد حلولٍ جذرية للمشاكل التي يعيشها القطاع، لتختتم حديثها بالقول: "حين يُقدِم شابٌ في مقتبل العُمر على الانتحار، فالمؤكَّد أنَّ ذلك يعني الكثير. لكنهم عندنا للأسف لا يلتفتون إليك حيّاً ولا ميتاً".
أمّا الممثّلة المسرحية صبرينة قريشي، التي تُقيم هي الأخرى في مدينة قالمة، فتُفضّل النظر إلى حادثة انتحار هيثم حساسني من زاوية أشمل تتعلّق بالوضع العام في البلاد؛ إذ تقول: "هيثم ليس استثناءً؛ ففي الفترة الأخيرة سمعتُ عن خمس أو ستّ حالات انتحار لشباب لم تتجاوز أعمارهم العشرين سنة، وهذه ظاهرة تعكس حالة الإحباط الموجودة في كلّ المجالات، وليس في المجال الفنّي فحسب، وتدعونا إلى تأمُّل الوضع. ثمّة شباب لديهم الكثير من الطموح والإبداع، علينا أن نفتح لهم الأبواب، وإلّا فليس علينا أن نُفاجأ إذا لقوا مصيراً مشابهاً".
وتختتم قريشي حديثها إلى "العربي الجديد" بالقول: "على النخب ألّا تكتفي بالانتقادات...عليها أن تتحرّك لمواجهة هذا الموت الذي يحصد شبابنا كلّ يوم".