عامل في مصنع الرواية

11 ابريل 2020
رسم مستوحى من "مئة عام من العزلة" لماركيز(نيكولا بيكر)
+ الخط -

يُخبرنا جون هالبرين في واحدة من مقالات كتابه "نظرية الرواية" أنّ "الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الروائي أن يَخرج حياً من العناق مع الموت هي أن يقلب عدوّه إلى حليف". يخلق هذا التضاد الذي ينطوي عليه قول هالبرين، في ذات الروائي، شيئاً من الإثارة. إذ كيف للموت أن يكون شريكاً في صناعة ما يُثري الحياة، وكيف للكاتب أن يخوض المعركة مع الموت بوصفها عناقاً.

لا شك في أنّ استخدام التضاد هو واحد من أساليب الكتابة، وقد يصنع الكاتب عبره نصاً عبقرياً، إذا استطاع جمعه على طرفي قوس مشدود ومُحْكَم. إلا أنّ ما يبحثه قول هالبرين هو سياق آخر؛ أن يجعل الروائي من الموت عاملاً في مصنعه، أن يستخدمه ومن ثمّ ينتصرُ عليهِ.

نرى هذه المعالجة في صورٍ شتى ونصوص كثيرة، طالما أنّ الموت هو أكبر أسئلة الوجود، إذ يترك الأحياء يترقّبون آجالهم، وما إن يغادروا يحاول المحبّون أن يُداروا الفقد. إنّ ألعاب السرد وفنونه كثيرة أيضاً، إلا أنّها لا تغيّر حقيقة الموت، بقدر ما تعيد ترتيبه في سياق قصة ما.

تبدأ رواية خوان خوسيه ميّاس "هكذا كانت الوحدة" بحدث وفاة الأم، يصل خبر الوفاة لابنتها إيلينا وهي تنزع شعر رجليها. بهذا فإنّها لا تكمل، وإنّما تضطر للخروج، برجل منزوعة الشعر وواحدة لا. تبكي إيلينا عندما ترى رجليها، ونفهم لحظة الموت على أنّها انتباه إيلينا إلى حياتها العرجاء. ومن ثم سعيُها إلى إصلاحها عبر مساءلة ماضي زوجها ومغادرة منزله. وكانت قد وجدت بين أغراض المتوفاة دفتر مذكرات، عرفت من خلاله أنّ أمها كانت تراها قرينتها. وبذلك، ينضج نص ميّاس على تضاد مثالي، فالحياة قرينة الموت. تدافع إيلينا عن فرصتها بأن تعيش، بمغادرة المنزل الخالي من الحب، وكان موت الأم إشعاراً بحياة البنت.

أما في رواية غابرييل غارسيا ماركيز؛ "قصة موت معلن"، يكون الموت نهاية حبكة روائية متقنة، وتعتبر الرواية مثالاً متفوّقاً في جعل الموت معروفاً. إذ يُخبرنا الراوي، منذ الجملة الأولى، عن وقوع جريمة قتل لسنتياغو، لكنه يتركنا مشدودين بخيوط ماهرة سحرية حتى وقوع الجريمة، والتي تجعلنا نهتف، ما إن نصلها. إذ يصوّر ماركيز الموت على أنّه عرض احتفالي. بدءاً من ارتداء سنتياغو للملابس الاحتفالية، إلى تصوير الناس في ساحة الجريمة كما في أيام الاستعراضات. لتكون الرواية بناء ممتعاً وثرياً، يُلهينا عن حقيقة الموت. ويورط القارئ في تفاصيل الجريمة المرتقبة، بعدما صار الموت متوقعاً إلى درجة انتظاره. يبني ماركيز الأحداث بتحرٍّ مشوّق، يوزّعها على ساعات قليلة، ما يجعل الموت قريباً، ووفق مصادفات مأتمية، تجعلنا ننتظر مصادفة تمنع وقوعه. حيث يعرف الجميع، باستثناء سنتياغو، أنّ القتلة بانتظاره.

يكشف الأدب الذي يستخدم الموت الخدعَ التي تحطّم الحياة، وهو يرتّب الأحداث التي تجري في الصفحات، ترتيباً، يبدو معه أنّنا قادرون، مثلما يحدث في الحكايا، على أن نلهو، ونوسّع الحلقة التي ضاقت حول أعناقنا.

بحكم فنّه يستطيع الروائي أن يعيد الموت إلى مفردات الحياة، كما لو أنّه واحدٌ من ضروبها، من عثراتها غير المحسوبة، مجرّد احتمال في فضاء متعدد. لتكون الرواية، القوس الذي يمسك بالحياة من جهة وبالموت من جهة ثانية، وفيما القوس يشتد تُرمَى السهام في ذلك الفضاء، الذي هو المصائر.


* كاتب من سورية

المساهمون