"دليل ميشلان" أو "الدليل الأحمر" إنجازٌ خطابيٌّ لافت في مشهد الثقافة ومَسالك الكتابة؛ فهو مجلّة سنويّة تصدر في فرنسا دون انقطاع منذ عام 1929، عن الشركة العالمية "ميشلان"، الخاصة بصنع العجلات المطّاطيَّة، لكل أنواع المَركبات، من الدرّاجات إلى الطائرات.
كانت الفكرة، في أصل ظهورها، شديدة البساطة: تسجيل أهمّ المطاعم والفنادق والنُّزل الخاصة، التي تمتدّ على كافّة التراب الفرنسي، وإسناد مِن نَجمة واحدةٍ إلى ثلاثٍ إليها، بحسب جودة الطعام وطُرُق مَزج العناصر فيه، والحفاظ على الإرث الغذائي، ثم توزّع تلك المؤسّسات السياحيّة بحسب المدن والمحافظات.
وهكذا، تُمثّل هذه الوثيقة السنوية مرجعًا يُعين المسافرين والرحَّالة وسائر هواة المطاعم، على اختيار نقاط الاستراحة والأكل والاستجمام إبّان تنقلهم. ومع مرور الزمن، أصبح هذا "الدليل"، بما يتضمّنه من نجومٍ وإحالاتٍ، سلطة قيمية تَبحث عن مظاهر الجودة وتسعى - كما تؤكِّده مقدّمته - إلى الحفاظ على فنّ الطبخ الفرنسي وأطباقه الفاخرة، باعتباره تراثًا وطنيًا وجزءًا من الذاكرة الجمعية. وتبسط هذه السُّلطة نفوذَها عبر تراتبية اختيار المطاعم والفنادق وتصنيفها حسب جودة الخدمات ونوعية الألوان وأصالتها وتأنّقها، ثم إسناد نجوم لها: ثلاثة للأفضل، واثنتان للمتوسّط، وواحدة للاعتيادي.
ومن الطرائف أنّ عدّة مطاعم رفعت دعاوى قضائية للاعتِراض على عدد النجوم المسندة إليها، ورأت فيها حيفًا وإساءة إلى سمعتها. كما قامت بعض المطاعم الأخرى بـ"ردّ" النجمة احتجاجًا على سياسة القائمين على هذا الدليل، ورفضًا لبعض إجراءاته.
قبل أيام، صدرت الطبعة المحيَّنة لهذه السنة في استمرارٍ لسياسة التميّز الذي تطالب به هذه المؤسّسات السياحية والمطعمية، علمًا أنّها قبلةُ الفرنسيّين وإحدى أهمّ وجهاتهم مرَّة في الأسبوع، في ممارسة شعائريَّة قارّة، رغم أنَّها تغيّرت نوعًا ما بسببٍ الأزمات المالية المتعاقبة التي أضرّت بميزانيات العائلات المخصّصة للتسلية وارتياد المطاعم.
ويعود الفضل لهذا "الدليل" ونظائره من الخطابات المتعلّقة بفن الطبخ والاغتذاء في صياغة حقل معجميٍّ كاملٍ، وصور من الأسلوب خاصّة تشير إلى المكوّنات وامتزاج العناصر ودرجة نضجها وتزاوج المذاقات وارتباطها بأبعاد الطبيعة وفترات اليوم والمناسبات الاجتماعيّة واقتضاءات البروتوكول ونوعية الأواصر الجامعة بين المُضيف وضيوفه.
وبإيجازٍ، فإنَّ عالَمَ الأكل الذي ينشأ في سطور هذه الصفحات وما يزيّنها من إعلاناتٍ وصُور، هو عالمٌ يتجاوز، من بعيدٍ، وصفَ الوَجبات إلى ما يشبه الإحالة على منظومة كاملة من القيم والأحلام والرؤى ولكنها ترتدّ، في نهاية المطاف، إلى نمط العيش الرأسمالي في فردانيته المفرطة أحيانًا، والتي تهمل "بقية العالم"، والعبارة لمطاع صفدي.
ولهذا السبب ربّما تعرَّض هذا "الدليل"، طوال تاريخه، إلى انتقادات حادَّة وجّهها حتى "مفتّشون" كانوا يشتغلون لحساب "ميشلان"، ومنهم باسكال ريمي في كتابه: "المفتّش على طاولة الطعام" (2000)، وأوليفي مورنو في كتابه "الوجه الخفي لفنّ الأكل الفرنسي" (2004).
وفي هذه الكتب وفي غيرها من المقالات الصحافية، انتقد المختصّون اعتباطيةَ المعايير المعتمدة، وغموضَها، وحتى حيْفها أحيانًا، بالإضافة إلى عدم كفاءة المفتّشين، وما يرتكبونه من الأخطاء الفادحة التي حَصلت أثناء تقييم بعض المؤسّسات، مثل إسناد نجوم إلى مطعمٍ لم يُفتَح بعد، هذا علاوة على تكالب أصحاب المطاعم على السبق الصحافي والإشهار من أجل اكتساب فوائد تجاريَّة عاجلة، غير مبرّرة.
وإزاء هذا النوع من الخطاب المستقرّ من عقودٍ في المشهد الثقافي الفرنسي، لا يسعنا إلّا أن نُفكّر في ملايين المجوَّعين في العالم، واليَمن من عالمنا العربي إحدى الدُول المنكوبة، وما يعانونه من نقص حادٍّ في الغذاء الأساسي، في الوقت الذي يتبّجح فيه أثرياء الرأسمالية بالتأنّق في نوعية الأطباق والقَدر الذي ينبغي أن تحتويه من الأفاويه... فمن فخاخ "العقل الغربي"، نشأ هذا النوع من الخطاب الذي لا يكرّس سوى التفاوت بين ثريِّ الدول وتلك التي تتعرّض إلى إفقار ونهب مستمرّين.
كما لا يسعنا إلّا التأكيد على جودة الأطباق العربية وتنوّعها المذهل واختلاف الطعوم والمكوّنات، ومع ذلك لم تجد مَن يُظهر تلك الجودةَ عبر خطاب متماسكٍ، لا يقع في ما وقع فيه الخطاب الغربي من التسويق للاستهلاكية المفرطة أو حصر للأطباق العربية في طبق "الكسكسي" و"الكباب"، ضمن مخيال واقع بين مِطرقة الازدراء وفانتازيا الاستشراق. ربما آن الأوان لاجتراح إثنوغرافيا خاصة بالأطعمة العربية وتنوّعها وثرائها، بعيدًا عن النمطية والازدراء.
يستحقّ "دليل ميشلان" أن يخضع إلى رؤية تفكيكية، ابتدأها الفرنسيون أنفسهم، مثل بيار غونزلاس في مبحثه "مائة عام على دليل ميشلان" (2005)، كما يمكن أن يواصله أبناءُ جلدتنا من خلال عيون عربية، تحليل ما يخفيه من مركزية-أوروبية تدَّعي التفوَّقَ في كل شيءٍ، حتّى في طرق إعداد الأطباق، مع أنَّ "الكسكسي"، ذا الأصول الأمازيغية، صار إحداها، وحضوره دليلٌ على تهافت أسطورة الإرث الغذائي الصافي.