بدا المشهد الثقافي في فلسطين في 2019 أكثر تشظياً في التعامل مع واقعه السياسي والاجتماعي تحت الاحتلال، وأكثر تشوهاً في صورته عن ذاته، في وقت يُفترض بالثقافة أن تكون متراساً في وجه الانحدار السياسي، ومواجهة تحديات التحرّر.
لم يختلف الحال الثقافي كثيراً عن الأعوام السابقة، إنما جاء استكمالاً لإشكاليات سياسية واجتماعية شكّلت معادلاتها الخاصة، وفشلت الساحة الثقافية والإعلامية بتحليلها أو تغيير أدوات مواجهتها، منها مواضيع: حرية الفكر، وحقوق المرأة، والعدالة الاجتماعية. أفضى ذلك إلى سؤال جدلي حول إلى أي حد كانت الثقافة مؤثرة أم متأثرة في الوعي وتشكيله؟
القمع على خلفية الاختلاف الفكري كان السمة الأبرز لهذا العام، فبعد القمع العنيف لحراك "رفع العقوبات عن غزة" في الضفة العام الماضي، قُمع حراك "بدنا نعيش" في غزة، وكان مما نتج عنه حجب التغطية الإعلامية وإصابة العديد، بينهم الكاتب عاطف أبو سيف، الذي نُقل إلى مستشفيات رام الله، ومع تشكيل الحكومة الجديدة عُيّن وزيراً للثقافة.
وكاستكمال للمناكفات الداخلية، حجبت السلطة أكثر من 50 صفحة وموقعاً إلكترونياً بينها منصات ثقافية، بدعوى "تهديد الأمن القومي" تحت مسمى "قانون الجرائم الإلكترونية"، القانون الذي أُصدر قبل سنتين تزامناً مع قرار "مراقبة المضامين الثقافية"، وفي ذات العام الذي مُنعت فيه رواية عبّاد يحيى "جريمة في رام الله" من التداول (2017)، في وقت تحارب فيه "إسرائيل" المحتوى الفلسطيني على منصات التواصل، وتمنع دخول الكتب إلى فلسطين المحتلة، بحجّة أنها صادرة عن دور نشر في "بلاد معادية".
حتى في السياق الاجتماعي، فشل الخطاب الثقافي في فهم الواقع وإيجاد صيغة جامعة، وكثيراً ما انساق مثقفون إلى حديث منصات التواصل، مثل قضية "إسراء غريّب"، أو حتى في اتفاقية "سيداو" التي أثار اعتمادها من "السلطة الوطنية الفلسطينية" الجدل بين الناس، فتشابه فيها طرفا الاحتدام - مؤيدون ومعارضون - في أداة الخطاب الرافضة للاختلاف، وفي حاجتهما المشتركة إلى شرعية من "فوق" لتطبيق مفاهيم ثقافية على حياتهم الخاصة، وقلّما صادفنا مقاربات تحاول تقديم فهم مختلف لا يهدف إلى إقصاء طرف من الأطراف، مثل قراءة "فرانز فانون" لدعوة الاستعمار الفرنسي المرأة الجزائرية إلى نزع حجابها، والتي رأى فيها أنها تهدف إلى تفكيك المجتمع وقيمه التحررية.
وفي سياق التمثيل الرسمي أو القسري للثقافة، أثار اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين الانتقادات بسبب زيارة أمينه العام لدمشق ما اعتبر دعماً للنظام السوري، مما أعاد التشكيك بنزاهة الانتخابات الأخيرة، خاصة وأن عدداً من أعضاء الاتحاد يعملون تحت مسميات وظيفية رسمية في وزارة الثقافة. وأشار كتّاب فلسطينيون إلى غياب أي دور للاتحاد المذكور سوى إصدار بيانات التعازي، وأصدرت مجموعة منهم بياناً قاسياً ضد الزيارة.
وعلى جانب آخر، أعلنت "وزارة الثقافة" القدس عاصمة للثقافة الإسلامية (ضمن مشروع عواصم الثقافة الإسلامية)، ونظمت لأجلها حفلاً موسيقياً في مدينة أريحا ضم 60 عازفاً من دول مختلفة، في حين لم يُستَثمر الحدث الثقافي وكأنما توفي المشروع بصمت دون أن ينتبه له أحد. إلى درجة أن صفحة "عاصمة الثقافة الإسلامية" على ويكيبيديا لا تتضمن القدس بين عواصم الثقافة الإسلامية في 2019! ولم تكلف وزارة الثقافة الفلسطينية نفسها بإبلاغ الرأي العام عن حقيقة هذا المشروع ولماذا أُعلن عنه وتوفي بصمت.
الحال المستمر منذ عقد لا يتبدل فيه شيء أفضى إلى طغيان الهَم السياسي على الإنتاج الأدبي الفلسطيني، فكان لافتاً الشعور بالإحباط والسخط الذي حملته إصدارات العام، بالإضافة إلى الحنين إلى الماضي، في أعمال سردية مثل "بنت من شاتيلا" لأكرم مسلّم، و"ليتني كنت أعمى" لوليد الشرفا، و"الموت في حيفا" لمجد كيّال، و"دمشقي" لسعاد العامري (صدرت ترجمتها العربية بتوقيع عماد الأحمد)، كذلك، المجموعة الشعرية "الضحك والحرب، والجيتار البرتقالي" لرجاء غانم ومجموعة أسماء عزايزة "في الحرب لا تبحثوا عنّي".
وبينما كان الوسط الثقافي يتطلع إلى جوائز في الرواية كما هو دارج في السنوات الأخيرة، جاءت الجوائز من جهة القصة القصيرة حيث حصلت الكاتبة شيخة حليوى على "جائزة الملتقى للقصة القصيرة" الكويتية، وحصلت الترجمة الإنكليزية لمجموعة الشاعر نجوان درويش (Embrace) على جائزة منظّمة "القلم الإنكليزي" English PEN لأبرز الأعمال غير المنشورة والمترجَمة إلى الإنكليزية من لغات العالم المختلفة، والتي ستصدر في 2020.
محلياً، شهد العام توزيع جائزة محمود درويش التي تمنحها المؤسسة التي تحمل اسمه، وذهبت إلى الفنان كمال بُلّاطه والشاعر أمجد ناصر والروائي صنع الله إبراهيم. كما شهد هذا العام توزيع جوائز فلسطين التقديرية التي خفت وهجها بسبب عدم انتظامها وتعثّر وزارة الثقافة ومشروع السلطة ككل، وقد مُنحت هذا العام لكل من الشاعر عز الدين المناصرة والمفكر فهمي جدعان والروائي رشاد أبو شاور عن مجمل منجزهم، وإلى رواية "بنت من شاتيلا" لأكرم مسلّم ومجموعة محمود شقير القصصية "سقوف الرغبة"، إضافة إلى بقية حقول الجائزة.
وحظيت السنة بدراسات وأبحاث مهمة، منها ما أصدره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات": "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟" للمفكر عزمي بشارة، و"يافا.. دم على حجر" المكوّن من جزأين للباحث بلال شلش، كذلك، أصدرت "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" مجموعة من الكتب هذا العام، كـ "فضائل القدس: دراسة تحليلية مع تجميع لنص كتاب فضائل بيت القدس للوليد بن حماد الرملي"، و"دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية" لـ قيس ماضي فرّو.
على مستوى المؤسسات داخل فلسطين فثمّة ما يدعو إلى التفاؤل في بعض الحالات، مثل الانفراجة التي يشهدها "المتحف الفلسطيني" في بيرزيت على يد مديرته الحالية الباحثة عادلة العايدي-هنية، والذي عقد مؤتمره السنوي الأوّل "المشاهد الطبيعية في فلسطين: آفاق جديدة منذ العام 1999"، على مدار يوم كامل، في قاعة معهد مواطن بجامعة بيرزيت، وذلك في ختام فعاليّات معرضه "اقتراب الآفاق: التحولات الفنّية للمشهد الطبيعي".
كما كسر المشروع البحثي الذي أطلقته "مؤسسة عبد المحسن القطّان" في رام الله، لجمع مواد جوّية ووثائق من أرشيفات عالمية، رتابة بعض الأنشطة الثقافية المنعقدة، حيث أقامت المؤسسة ندوة حملت اسم "فلسطين من الأعلى"، قدمت فهماً جديداً لتتبع استعمار فلسطين.
وقد شهدت الأيام الأخيرة من 2019 الإعلان عن "جائزة الكاتب الشاب" التي تمنحها "القطان" ولأول مرة تُمنح الجائزة لنفس الفائز في فرعين من فروعها حيث حصل أمير حمد من القدس على جائزة القصة القصيرة عن مجموعته القصصية "جيجي وأرنب علي" وتناصفت مجموعته الشعرية "بحثت عن مفاتيحهم في الأقفال" جائزة الشعر مع مجموعة تغريد عبد العال (المقيدمة في طرابس بلبنان) "العشب بين طريقين".
وحصل موفق أبو حمدية من الخليل على جائزة الرواية عن عمله "حصرم مر". كما يمكن الإشارة إلى مجمل ما تقوم به "جمعية الثقافة العربية" ومقرّها مدينة حيفا في فلسطين المحتلة عام 1948 من مشاريع ومبادرات، وأنشطة ثقافية دورية مثل ندوات "حديث الأربعاء".
على أعتاب عامٍ جديد، يقف المثقفون أمام أسئلة مفتوحة حول طبيعة دورهم في الهَم الجماعي، وضرورة تطوير أدوات الثقافة وأولوياتها، وإلى أي مدى يمكن للثقافة أن تشتبك مع الواقع لإحداث تغيير، علّهم يجدون أجوبة مقنعة عن هذه التساؤلات في 2020.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وداعات
كان 2019 عام وداعات في الحقل الثقافي، فبعد أشهر قليلة من رحيل الناقد عيسى بُلّاطه بصمتٍ في كندا، غادر عالمنا شقيقه الفنان التشكيلي والناقد والمؤرخ الفني كمال بُلّاطه (الصورة) في برلين، وقد نجحت عائلته، بعد جهود حثيثة، بمواراته الثرى في القدس المحتلة. كما رحل المترجم صالح علماني، والناقد صبحي شحروري، والشاعر خليل توما، والباحثان سميح حمودة وسميح شبيب، وفي عمّان رحل الطبيب والكاتب المقدسي صبحي غوشة.