لما يخوض في قضية الاقتراض المعجمي القاصي والداني، من المختصين ومن غيرهم، كالسّاسة ورجال الدين، يتأكد لزوم إجراء نظرة نقدية للظاهرة. فقد تتالت في المشهد الثقافي الفرنسي، طيلة قرنٍ ونصف قرن، الكتبُ والدراسات التي تذكِّر بالأصول العربية للعديد من المفردات الفرنسية. فمنذ الحقبة الأندلسية إلى يومنا، استعار لِسان موليير من لغتنا مفرداتِ العلوم كـ"كيمياء" و"جبر" لإثراء الرصيد المعرفي.
كما أخذ من كَلِم الحياة اليومية ما غذّى به نسيج معيشه كـ"أرز" و"سكّر". وتضيف هذه الدراسات أنّ الاقتراض استمرّ خلال المرحلة الاستعمارية في بلدان المغرب والمشرق، ولكن اختلفت حقولُ الكلام التي يُستقى منها وإليها، فكثر الاقتراض ضمنَ المجال العسكري والديني. ثم تشير هذه الدراسات إلى استمرارية حضور الضاد في الفرنسية بتأثير الجاليات العربية بعد أن استَجلَبَت معها من ثقافاتها الأصليّة كلماتِها.
وهكذا تشكّل مَتن كبيرٌ من المفردات المقتَرَضَة ومُحِّضت له معاجم متخصصةٌ وأبحاثٌ رَصينة، بعد أن غدا هذا الموضوع من محاور الدرس الألسني. ولعلّ أول مَن كتب في هذا الشأن المستشرقان هنريش انجلمان ورينهارت دوزي في "مُعجم الكلمات الإسبانية والبرتغالية المُشتقة من العربية" (1868)، وهو من مَتين البَحث، حلّلا فيه التحوّلات الصوتية والدلالية التي تَطرأ على المفردات ودرسا مسالكَ اقتراضها عبر لُغاتٍ شتّى. إذ غالباً ما تستقرُّ الألفاظ العربية في الفرنسية بواسطة الإسبانية أو الإيطالية وحتى بعض لهجاتهما المحليّة.
وفي عصرنا، نذكر الباحث الجزائري صالح قمريش الذي ألّف كتاب "معجم الكلمات الفرنسية من أصل عربي، مصحوباً بأربعمئة اختيارٍ أدبي" (2007)، بتصدير آسيا جبّار. وبعد سنة، أصدر نصر الدين بوطمينة كتيَّباً بعنوان "كلماتٌ فرنسية من أصل عربي"، وكذلك نشر بوعلام بن حمودة كتاباً يحمل العنوان ذاته.
واللافت أنّ أكبر المعجميين الفرنسيين في زمننا باتوا، ربما بتأثيرٍ من الموضة، يخصّصون أحد كتبهم لهذا الموضوع، فقد وضع عالم المعجميات آلان راي كتاباً سمّاه "سَفرُ الكلمات من الشرق العربي والفارسي نحو اللغة الفرنسية" (2013) أحصى فيه العديدَ من المفردات التي هاجَرت من المشرق لأوروبا. وتبعه جان بريفو الذي اختار عنواناً استفزازياً "أسلافنا العَرب"، (2016)، في مناكفة واضحةٍ للفرنسيين اليمينيين الذين يؤكدون أنّ الغالية وحدَهم هم الأسلاف. واستعرض فيه مختلف الفترات والوسائل والحقول التي شاع فيها الاقتراض من الضاد وبيّن كيف أصبحت الضاد المَعين الثالث للفرنسية. وتَبعه أيضاً الألسني لوي-جان كالفيه الذي صاغ مفهومَ "الكلمات المتوسطية" ليدرس انتقال الكلمات ذات الأصل العربي نحو سائر البلدان المُطلة على المتوسط وما يطرأ عليها من تحولاتٍ صوتية ودلالية.
إذن نحن إزاء ظاهرة مُطّردة صارت، بمرور الزمن، مبحثاً ألسنيّاً ثابتاً في علم المَعْجَمة الفرنسي، يقوم به المتخصصون من المستعربين، كما قد يتصدّى له من لا يَملك التضلع الكافي في العربية.
وأول المزالق التي قد تقع فيها هذه الكتابات الخلطُ بين العربية والفارسية والتركية، ونسبة الكثير من الألفاظ إلى الضاد في حين أنَّ أصلها مختلف: سرياني أو أمازيغي أو فارسي... كما قد يتعسّف الباحثون في ربط الكلمات الفرنسية بجذور مُفترَضة، إلى درجةٍ تصير فيها بعض الاحتمالات مثار سخرية، ومن ذلك اعتبار كلمة "جُند" أصلاً للفرنسية gendarme لمجرد التشابه اللفظي الجزئي بينهما. وقد يوقع جهل الباحثين باللغات اللاتينية والإغريقية والأوروبية في التسرّع بادعاء عروبة نَسَب بعض الألفاظ. وهذا ما حصل مع كلمة médecine إذ ظُنّ أنها تحوير لكلمة "مَدى سينا"، في إشارة إلى الطبيب ابن سينا، في حين يثبت "مكنز اللغة الفرنسية" أنها منحدرة من اللاتينية medicus. وإذا غَضضنا الطرفَ عن هذه الأخطاء، تقوم هذه الفرضيات على مُسلمات تتجاوز البحث العلمي الموضوعي.
ومن ذلك أنّ مضامين هذه الكتب قد تبعث، بقصدٍ وبغير قصدٍ، على الإحساس بالاعتزاز بسبب حضور هذا العدد الوفير من الكلمات العربية في لغة موليير. وقد يتطوّر هذا الفَخار إلى الشعور بالمِنّة على فرنسا والفرنسيين، حيث ينبثق خلط خطير بين الدال والمرجع اللساني، فيتوهّم بعضهم أنّ للعرب الفضل في حصول أوروبا على "السكر" و"القطن" و "القهوة" لأنّ مقابلاتها sucre ،coton وcafé من أصل عربي. ومع ذلك، لا يعني اقتراضُها أنَّ العرب هم من أنتَجوا هذه المواد المُحال إليها، ولا أنّ الغرب قد توقّف عليهم في معرفتها.
وقد تندرج هذه التآليف ضمن مسار التمجيد الذاتي وتبرئة ساحة الثقافة العربية من شُبهة التخلف والتأكيد على إسهامها في بناء حضارة الغرب، فقد كانت حلقة وصلٍ بَينها وبين التراث الإغريقي والفارسي. وربما هذا ما يفسر انتشار قوائم المفردات الفرنسية ذات الأصل العربي على شبكات التواصل الاجتماعي ومشاركتها بين الشباب من أبناء الجيل الثاني، رغم ما يعتريها من أخطاء وعدم الدقة، إذ يُكتفى فقط بترتيب كلمات في لوائح حسب حروف المعجم. تمجيد الذات مشروعٌ ما لم يتحول إلى سلاح ضمن "الحرب الثقافية" بين حضاراتٍ يُراد لها الاصطدام والتنافس حتى على التاريخ الرمزي للكَلِم.
تغفل هذه "الحربُ" أنّ الاقتراضَ ظاهرة لسانية عامة، تستوي فيها لغات العالم كلها، وليست واحدة منها بأفضل أو أسوأ من الأخرى. ولا مجال، من الناحية العلمية، لهذا الافتخار، فاللغات البشرية، وتبلغ اليوم زهاء الثمانية آلاف لغةٍ، قامت جميعها وتطوّرت مثل أيّ نظامٍ اجتماعي ومعرفي، على التبادل والاقتراض والتكييف.
ولعلّ إفادة الباحثين العرب ستكون أعمق وأوسع في دراسة طرق انتقال الكلمات ومتابعة مساراتها المعقدة وما يطرأ عليها من تحوّلات في المعنى وتغيرات في النطق، ثم ما يعلق بها من الصور وإحالات المجاز وما تتضمّنه من طاقات الإشارة إلى غير مَراجعها الأولى ثم كيفيات توظيفها في سياقات اللغات المقترِضة. وقد تشكل كتب الرحلة الكلاسيكية، ولا سيما خلال الفترة الصليبية مثل "رحلة ابن جبير" و"الاعتبار" لأسامة بن منقذ، مَدخلاً مناسباً لهذه الأبحاث التي لا يمكن أن ينهض بها الألسنيون الفرنسيون لجهلهم بلغتنا. ولا مبالغةَ في القول إنّ هذا المبحث في بداية طريقه رغم ما أنجز منذ عقودٍ. ومن الضروري أن يتجاوز مُجرّد عرض لوائح للكلمات والتوظيف الأيديولوجي لها، إذ تحتاج نظرية الاقتراض إلى تأصيلٍ تاريخي أشمل يمكن أن يرفد "مُعجم الدوحة التاريخي".