أنتَ في منتصف كانون الأوّل/ ديسمبر 2018. تبدأ جولتك في الجزائر العاصمة مِن أمام مبنى "المسرح الوطني محيي الدين بشطارزي" الذي يستعدّ ليستقبل، بعد بضعة أيّام، فعاليات الدورة الثالثة عشرة من "المهرجان الوطني للمسرح المحترف"، التي ستحمل اسمَ الممثّلة والمخرجة المسرحية سكينة مكيو، المعروفة باسم صونيا، والتي رحلت في أيّار/ مايو الماضي.
تمضي باتّجاه الشارع الذي يحمل اسم العربي بن مهيدي (1923 - 1957)، أحد قادة الثورة الجزائرية. بعد خطواتٍ قليلة، تصل إلى "متحف الفن الحديث والمعاصر" الذي أُسّس في 2007. يلفتك المبنى الفسيحُ المُصمَّم وفق طراز أندلسي، ويلفتك أكثر خلوُّه من الزوّار، رغم أن اللافتة المعلّقة على واجهته تقول إنه يحتضن، حتى نهاية السنة، معرضاً حول "التراث التصويري". ستُرجّح أن مردَّ الأمر غيابُ سياسة اتّصالية تُطلِع الجمهور على ما يُقام من فعاليات، خصوصاً وأنت تتذكّر موقعه الإلكتروني الفارغ تقريباً، والذي يتوجّه إلى زوّاره بلغةٍ يتيمة هي الفرنسية.
تلتفت يساراً؛ حيثُ "متحف السينما الجزائرية" الذي يتوسّط عدداً من المحلّات التجارية، فتُقابلك عند مدخله مجموعةٌ من السينمائيّين الجزائريّين. على الأرجح، لا تتعلّق المناسبةُ بتظاهرةٍ سينمائية. آخرُ تظاهرة في الفن السابع لهذا العام كانت "أيّامَ الفيلم الملتزم" (مهرجان الجزائر الدولي للسينما)، وقد نُظّمت دورتُها التاسعة بدايةَ الشهر في "قاعة ابن زيدون" بـ "رياض الفتح". تقترب أكثر، فتجدُ نفسك في خضمّ تجمُّعٍ احتجاجي: "السينماتيك" في خطر"، تُحذّر إحدى اللافتات المرفوعة.
منذ تأسيسه عام 1965، في زمن وزير الثقافة الراحل امحمّد يزيد (1923 - 2003)، لعبَ "متحف السينما"، أو "قاعة السينماتيك"، دوراً بارزاً في الحياة الثقافية خلال السبعينيات والثمانينيات، حين كانت السينما الجزائرية تعيش عصرها الذهبي؛ ففي وقتٍ وجيز، تحوّلت القاعة إلى محجّةٍ يفِد إليها كبار السينمائيّين في العالم، حتّى أنها عَرضت، في السنوات الأربع الأولى فقط لتأسيسها، قرابة عشرة آلاف فيلم لا تزال تحتفظ بنحو تسعين في المئة منها.
قد يتساءَل أيُّ عابرٍ بشارع بن مهيدي في تلك اللحظة، وهو يرى السينمائيّين المحتجّين، عن طبيعة الخطر الذي يتهدّد "السينماتيك" التي احتفلت قبل ثلاث سنواتٍ بذكرى تأسيسها الخمسين. لن تُفكّر في أنّه قد يكون مهدّداً بالانهيار إن كنتَ تعلم أنَّ المبنى رُمّم وأُعيد افتتاحه قبل سنوات قليلة، وبات يحتضن عروض أفلامٍ وتظاهرات سينمائية بين الفينة والأخرى، وإنْ كان لا أحد يعلمُ، بالضبط، وضعَ ما فيه من أرشيف سينمائي يضمّ نسخاً أصلية ونادرة لأفلام جزائرية قديمة، والذي قرأتَ في الصحف، غير ما مرّة، أنه مُهدّد بالتلف والضياع.
تسأل السينمائيّين عن مطالبهم، فيجيبونك بأنّهم يرفضون قرارَ وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، تعيينَ الصحافي والمخرج السينمائي، سليم عقّار (1968)، مديراً عامّاً للمؤسّسة، وأنهم أصدروا، قبل الوقفة، بياناً ضمّ توقيعات أكثر من 150 سينمائياً وكاتباً، ندّدوا فيه بما يعتبرونه "حركةً استفزازية وشتيمةً لذكاء السينما". من بين مآخذهم على المدير الجديد أنه "جعَلَ من مهنته كــ "ناقد" سينمائي، غطاءً لشنّ حملات إهانة شرسة ورجعية ضدّ المخرجين".
تتصفّح شاشة هاتفك بحثاً عن تعليقٍ من وزير الثقافة، أو من مدير "متحف السينما" الذي لم يُنصَّب بعدُ، فتقرأ ردّاً من الأخير يعتبر فيه أن الحملة مجرّد تصفية حسابات شخصية من قِبل مخرِجين كَتَب، في وقت سابق، مقالاتٍ نقديةً عن أعمالهم، مستدلّاً بعدم تحرُّكهم للتنديد بالوضع المزري الذي عاشته "السينماتيك" طيلة عشرين عاماً.
ترفعُ رأسك مجدّداً، فترى المنتِجَ والمخرج السينمائي بشير درّايس واقفاً بين المحتجّين. تَردّد اسم الرجل كثيراً في 2018، بعد إعلانه في أيلول/ سبتمبر أن وزارتَي الثقافة والمجاهدين رفضتا عرض فيلمه الروائي الطويل "العربي بن مهيدي" قبل أن يأخذ تحفّظات "لجنة المشاهدة" بعين الاعتبار، وهي أربعون ملاحظةً؛ من بينها: "ضرورة تركيزه على إبراز الجانب النضالي في حياة بن مهيدي وتعرّضه للتعذيب، بدل التركيز على الخلافات الداخلية بين قادة الثورة"، وهي الملاحظات التي رفضها درّايس، واعتبرها "تدخّلاً رقابياً يُهدّد حرّية الإبداع السينمائي".
في خضمّ الجدل الذي أثاره منع الفيلم التاريخي، الذي تطلّب إنجازه قرابة عشر سنوات وكلّف ستّة ملايين يورو، برز رأيان يُدافع الأوّل عن خيارات درّايس ويرفض فرْض أيّة وصاية رسمية عليه، بينما يرى الثاني أنّ على المخرج الامتثال لشروط وزارتَي الثقافة والمجاهدين اللتين موّلتا الفيلم (الأولى بنسبة 40%، والثانية بـ 29%).
كان مدير "السينماتيك" الجديد، كصحافيّ متابعٍ للشأن السينمائي، مِن بين الذين تبنّوا وجهة النظر الثانية؛ ففي برنامج تلفزيوني على إحدى المحطّات الخاصّة، خاطب درّايس قائلاً: "حين تُنجِز فيلماً بمالك الخاص، يُمكنك أن تفعل ما تشاء". وتلك الوجهة القريبة من رؤية المؤسّسة الرسمية هي، على ما يبدو، ما يُثير حفيظة السينمائيّين على عقّار الذي يرون فيه "عضواً في لجنة مشاهدة غامضة، مارسَ الرقابة بفخر على عددٍ من الأفلام وقبِلَ أفعاله كرقيب سينمائي، بل ويعتبرها فعلاً بطولياً وطنياً".
"لجنة المشاهدة" التي يُشير إليها المحتجّون، هي نفسُها التي أوصت في أيلول/ سبتمبر بمنع فيلم "شظايا الأحلام" للمخرجة الجزائرية بهية بن الشيخ لفقون، والذي يتناول أوضاع الشباب الجزائري في ظلّ أحداث "الربيع العربي"، وقد كان مبرمجاً للعرض في ختام فعاليات الدورة السادسة عشرة من "لقاءات بجاية السينمائية"، فردّ المنظّمون بإعلانهم تعليق التظاهرة "إلى غاية توفير ضمانات وشروط النشاط الفنّي والثقافي بحريّة".
وأنتَ تستعيد حكاية منع الفيلم من العرض، تنتبه إلى أنَّ كثيراً من جدل 2018 الثقافي كان متعلّقاً بالحقل السينمائي بشكل أو بآخر، ففي أيّار/ مايو الماضي، أُثير جدلٌ بسبب إعلان وزير الثقافة إغلاق "قاعة محمّد زينات" في العاصمة لمدّة شهرٍ، وفتْح تحقيقٍ رسمي مع مُسيّريها، على خلفية عرضها فيلم "بورات" للمخرج الأميركي لاري تشارلز، بعد أن كتبَت صحفٌ بأنه يتضمّن مشاهد وعبارات "خليعة".
اعتبرت بعضُ الأصوات أن الوزير بقراره إنما كان يسعى إلى مداهنة الإسلاميّين، بينما نُقل عنه أن السبب الحقيقي يتمثّل في "تمادي مسيّر القاعة في عرض أفلامٍ مقرصنة". وأيّاً كان، بدا الوسط السينمائي مُجمعاً على أن إغلاق قاعة سينمائية في بلدٍ يشهد نقصاً في قاعات العرض لم يكُن قراراً حكيماً، بغضّ النظر عن أسبابه.
وفي أيلول/ سبتمبر، أُثيرت ضجّةٌ على خلفية إشراك جيرار ديبارديو في فيلمٍ تاريخي عن شخصية أحمد باي، حاكم الجزائر بين 1826 و1848، والذي تُنتجه وزارة الثقافة الجزائرية، ويُخرجه الإيراني جمال شورجة.
أسباب الضجّة، التي اتّسمت في كثيرٍ من جوانبها بالشعبوية وعدم الدقّة، كانت مركّبةً؛ إذ تزامنت زيارة الممثّل الفرنسي إلى الجزائر مع فتح تحقيقٍ قضائي ضدّه في بلاده بتهمة الاعتداء الجنسي على ممثّلةٍ شابّة، ثمّ أُثيرت مسألة علاقته بـ "إسرائيل" التي قال في أحد تصريحاته الصحافية إنه "يحسد اليهود الفرنسيّين على هجرتهم إليها"، بينما انتقد بعضهم "إسناد دور شخصية مسلمة لممثّل فرنسي"، وتحدّث آخرون عن "أجرٍ خيالي" يكون قد تلقّاه مقابل ظهور الذي لم يتعدّ بضع دقائق في الفيلم.
وردَّ وزير الثقافة على تلك الانتقادات، بالقول إنه لن يتخلّى عن "صديق الجزائر"، مُعتبراً أن مشاركته في الفيلم ستُحقّق له نجاحاً عالمياً، ومُضيفاً أن "حياته الشخصية لا تهمّنا".
أمّا "مهرجان وهران للفيلم العربي"، فقد شهدت دورته الحادية عشرة التي أُقيمت في تمّوز/ يوليو عثراتٍ عدّة؛ بدءاً بملصقتها التي أثارت سخريةً واسعة ووُصفت بالرديئة، مروراً بسوء التنظيم الذي طبع بعض جوانبها، وليس انتهاءً بالتصادم بين إدارة التظاهرة وهيئةٍ أُخرى تابعة لوزارة الثقافة؛ هي "الديوان الوطني للثقافة والإعلام".
غير أنّ القضايا السابقة تبدو شيئاً قليلاً مقارنةً بالضجّة التي أثارها شابٌ لم يكُن معروفاً في المشهد الفنّي والثقافي قبل تاريخ الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي؛ فقد استطاعَ فاروق بوجملين، الذي يُلقَّب "ريفكا"، حشْد أكثر من عشرة آلاف شخصٍ في ساحة "رياض الفتح"، بعد توجيهه دعوةً إلى متابعيه على تطبيق "سناب شات" لحضور عيد ميلاده. صدمت صوَر الحشود المتدفّقة على الساحة الرأي العام، وطرحت تساؤلاتٍ عن سرّ نجاحٍ "مراهقٍ" في جمع هذا العدد القياسي من الأشخاص في وقتٍ تعجز الأحزاب السياسية والفعاليات الثقافية عن استقطاب الجمهور.
لكن ما علاقة ذلك بالثقافة والسينما؟ الحقيقة أن "الحفل الغريب" ظلّ مادّةً للتعليقات على الشبكات الاجتماعية، والتحليلات الإعلامية والسوسيو – ثقافية طيلة أيّام تحوَّل الشابُّ، خلالها، إلى "نجمٍ" تستضيفه وسائل الإعلام الوطنية والدولية، قبل أن يستضيفه وزير الثقافة في مكتبه. وكما كان متوقّعاً، أثارت الخطوةُ انقساماً في الوسط الثقافي، بين مؤيّدٍ يرى فيها تشجيعاً لشاب ناجح في مجاله، وبين منتقدٍ لها، خصوصاً أن عز الدين ميهوبي منَحَ ريفكا "بطاقة فنّان" (وثيقة مهنية يستفيد صاحبها من تأمين اجتماعي) واقترحه لبطولة فيلم سينمائي؛ إذ رأى هؤلاء أن ثمّة الكثير من الفنّانين والمثقّفين المحترفين الذين من واجب المؤسّسة أن تدعمهم وتعمل على حلّ مشاكلهم.
من بين الذين يرون أنّ المؤسّسة الرسمية "لا تقوم بواجبها في دعمهم" رئيس "اتّحاد الكّتاب الجزائريّين"، يوسف شقرة، الذي كان قد اتّهم الوزير، قبل ذلك بأيام، باستهداف الاتحاد ومحاولة تقزيمه وتحييده عن المشهد الثقافي، ليردّ الوزير بالقول إن "اتّحاد الكتّاب يُقزّم نفسه بنفسه"، معتبراً أن حصيلته الثقافية خلال عشر سنوات هزيلة جدّاً.
غير أن نبرة الانتقاد الأحدّ لهجةً لوزير الثقافة هي التي كانت قد صدرت، قبل ذلك، في بيانٍ وقّعه عددٌ من الكتّاب والشعراء والفنّانين بعنوان "تغيير الوضع الثقافي"، ودعوا فيه إلى "وضع سياسة ثقافية واضحة، ومراجعة النصوص القانونية التي تكبح حرية العمل الثقافي والتعبير الفنّي، ووضع معايير شفّافة تتعلّق بتعيين لجان دعم وتمويل المشاريع الثقافية".
ووجّه هؤلاء جملةً من الاتهامات إلى وزارة الثقافة؛ من بينها: "احتكار الفعل الثقافي من طرف شلّة معيّنة، وإسناد المسؤوليات على أسس الجهوية والولاءات، وانتشار الفساد الذي خلق أثرياء جدد باسم الثقافة، ومنع عددٍ من الفعاليات الثقافية المستقلّة، إضافةً إلى غياب الجزائر عن المحافل الثقافية الدولية". وبحسب هؤلاء، فقد "تحوّل القطاع الثقافي إلى عبء ثقيل على الخزينة العمومية، تُقام عليه الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإِلغاء فعالياته".
في النقطة الأخيرة إشارةٌ إلى احتجاجات شهدتها مدن في الجنوب الجزائري ضدّ فعاليات موسيقية نظّمتها وزارة الثقافة، ما أدّى إلى إلغاء عددٍ منها؛ حيثُ كانت البداية في مدينة ورقلة التي تظاهَر فيها مواطنون، خلال تمّوز/ يوليو، قُبَيل ساعاتٍ من تنظيم حفلٍ موسيقي في مدينتهم، ضمن تظاهرة فنّية بعنوان "لنَفرح جزائرياً"، ثمّ سرعان ما امتدّت الاحتجاجات لتشمل مدناً صحراوية أخرى مثل أدرار وبشّار ووادي سوف والجلفة. عبّر هؤلاء عن سخطهم على الأوضاع المزرية التي يعيشونها في مدنهم التي تغيب عنها التنمية. لكن النقاش حولها اتّخذ أبعاداً أيديولوجيةً بعد أن قُرأت الاحتجاجات كفعلٍ معادٍ للفن والثقافة.
على ذكر معاداة الفنّ، تتذكّر مشهد تعرُّض تمثال "عين الفوّارة" في مدينة سطيف إلى محاولة تخريب جديدة من قبل شاب ملتحٍ في تشرين الأول/ أكتوبر؛ وهي التي رُفع عنها الستار في آب/ أغسطس بعد ترميمٍ استغرق أشهرَ لمحو آثار اعتداءٍ تعرّضت له نهاية 2017 وأدّى إلى تدمير أجزاء منها. غير أن المنحوتة بدت، في شكلها الجديد، مختلفةً عمّا كانت عليه في السابق؛ حيثُ تغيّرت ملامحها بشكل ملحوظ، وهو ما أطلق سيلاً من الانتقادات والسخرية.