يُفاجَأ المتابع للدراسات اللغوية، المُنجزة طيلة سنة 2018، ليس فقط بالقلّة العددية للتآليف الجديدة حول اللسان العربي، وإنما بغياب أي اختراق معرفي عميق فيها. فرغم ما يَشيع، في كل الوسائط والمنابر، سواء كانت رسميّة أم شعبيّة، من اهتمام بتطوير الضاد وتعلّق بدَرْسها وَفق المناهج الحديثة، يطغى الركود على هذا الحقل وتغيب المحاولات الجادة التي من شأنها أن تزحزح البديهيات وتفتح حقولاً مبتَكرة، تطوّر الموجود وتتطلع إلى المَنشود.
فمن جهة أولى، تغزو التآليفُ التراثية أسواقَ المنشورات، ولا سيما تلك الكتب التي تعود إلى مرحلة ما قبل النهضة، مثل الشروح والحواشي والتعليقات. ولئن كانت اليومَ تُصدَر في طبعاتٍ أنيقة، بعضها بالألوان، مع تحقيقات مفيدة، فإنّها تظل بمنأًى عن كل ما تحقق في مجال الدراسات اللغوية إبان العقود الأخيرة.
فلو أخذنا، تمثيلاً، ما صدر عن "دار الكتب العلمية" اللبنانية، وهي عريقة واهتمامها باللغويات مشهود، لَلاحظنا هيمنَة العناوين الكلاسيكية من قبيل: "شرح شواهد قَطْر الندى"، "شرح الأشموني على ألفية ابن مالك"، "شرح اللباب"، "شرح الإظهار" و"شرح التسهيل"، وغيرها من المؤلفات التي تراكمت فيها المعارف النحوية وعكف أصحابُها، عموماً، على تلخيص المتون وتحشيتها في استطرادات لا صلة لها بتحولات الضاد اليوم ولا بمناهج دَرْسها الحديثة. ومما يقاربه نشرُ الكتب التراثية، لأول مرة، وأبرزه تحقيق "دُرر الفرائد المستحسنة في شرح منظومة ابن الشحنة" بعناية سليمان حسين العميرات (دار ابن حزم).
إلا أنه من المشروع التساؤل عن فائدة هذه التصانيف وما ضمته من توسّع في إعراب تراكيب نحوية معضلة، لم يعد يستخدمها اليوم أحد، بل إنها لم تستخدم من قبلُ إلا على سبيل الاستثناء والإغْراب، وعن جدوى الإسهاب في تحليل صور بيانية اهترأت من زمان بعيدٍ. يحدث ذلك في الوقت الذي تسيرُ فيه المنظورات الألسنية المعاصرة نحو آفاق جديدة وتَنفتح على حقول معرفية متعددة، بدءاً من الفلسفة وصولاً إلى علوم الحساب والفيزيولوجيا.
وأما إذا يمّمنا شطرَ الدراسات الحديثة، فسنلاحظ وفرةً نسبية في الإنتاج التبسيطي وأعمال الترجمة. فتتناول هذه الأبحاث مسائل ألسنية (تأويلية وبراغماتية وعرفانية...) إما لدى مفكري الغرب، في مسعًى للتعريف بهم، مع أن هؤلاء المفكرين قد غادروا المشهد الثقافي من عَقديْن أو أكثر، مثل فوكو ودريدا وهابرماس. وقد تسعى هذه الدراسات إلى إعادة قراءة الكتب التراثية على ضوئها، وهذا في حد ذاته مفيدٌ، لولا أن بعض هذه المفاهيم الغربية، التي يُتوسل بها، قد عفا عليها الزمن. ومن نماذج ذلك، كتاب "الترجمة: رؤية فلسفية غير المختصة" لمحمد جديدي، غير أنه اكتفى فيه باستعراض ما هو مُتداول في حقل الترجمة من عقودٍ.
وأمّا الصادر حول لغتنا، في دور النشر غير المختصة، أكانت عَربية أم أجنبية، فيغلب عليه جمود الإشكاليات السالفة، والتي تكاد تدور حول الروابط بين اللهجات والفصحى، وسبل تبسيط قواعدها وعلاقتها بالسلطة وقضايا التوليد المعجمي والاقتراض والتعريب. فذاتُ المسائل، التي يعالجها الفكر العربي منذ عقود، تعود في كتبٍ مثل "حرب اللغات" (بالفرنسية) أو "العربية لغة عالمية" (بالفرنسية) و"في صحبة العربية" لأحمد بَيضون.
بيدَ أنَّ حضورها اليوم، في النقاشات العامة، دليل قاطع على عدم تجاوزها وعلى عدم نضج الظروف الموضوعية لقيام "ثورة" أو حتى "قطيعة معرفية"، بالمعنى الذي صاغه غاستون باشلار وتوماس كون، في حقل الدراسات اللغوية. كما أن حضورها إقرارٌ بأنّ العقل العربي لم يَتخذ بعد قرارات حاسمة في شأنها، وربما لن يأخذها البتة، لأنها مسائل تتداخل مع التاريخ والهوية والمقدس والحداثة في ذات الآن.
ولعل الاستثناء الأهم ضمن هذا المشهد، وليس الوحيد، هو صدور الجزء الأول من "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، والذي يُعد بحق سابقة في الدراسات المعجمية بفضل ما رسمه وسيرسمه من سرديات حول تطورات كل كلمة، وما لحقها من تحولات في الدلالة. وهو أداة عمل ضرورية، ستقلب تصوّرنا لتاريخ المعاني وستعيد ترتيب علاقتنا بذاكرتنا المعجمية.
ونأمل أن تكون ثمراتُه أطيب، في السنوات القادمة، حين يغطي العصور التي اشتبكت فيها العربية بالعلوم "الدخيلة" التي ما كان لأسلافنا، في جزيرتهم، معرفة بها مثل الكيمياء والطب والزراعة وغيرها كثير. وهي مجالات لا تزال معاجم العربية الحديثة تلاحقها، مقارنة بنظيراتها من اللغات الأوروبية وحتى بلغات الشرق الأخرى مثل التركية والصينية واليابانية، والتي بلغت فيها شأواً كبيراً.
غير أن كل هذا التراكم، الذي عرضنا له بإيجاز، يعاني من ثغرة معرفية هائلة: الانقطاع عن نظام اللغة العربية المعاصرة، المتداولة اليوم في كل الوسائط. ففي حين يشهد هذا النظام تطوراً لا سابق له من حيث كمُّ المولدات المعجمية وتخفيف التراكيب النحوية، فضلاً عن تنويع المرجعيات المجازية والأبنية الاستدلالية للنصوص. فكل هذه المظاهر الكثيفة والمتسارعة لم تأخذ بعد طريقَها إلى الأبحاث المعمقة.
ويكفي أن نأخذ مثلاً المفردات الخاصة بالصحافة، من قبيل: مُدوّن، تغريد، استقصائية، حوارية، حصاد، تغطية... لنرى عجز العقل التحليلي عن مواكبة ظهورها، وأحياناً اختفائها. كما نلحظ مثلَ هذا التخلف في عدم الاستفادة مثلاً من المدرسة التداولية، بكل تفريعاتها، في تحليل أفعال الكلام ضمن مجال السياسة العربية. ويترتّب عن مثل هذا الغياب الإخفاق في فَهم الممارسات الاجتماعية، بما أنّ اللغة وأفعال كلامها نشاطٌ اجتماعي، وثيق الصلة بحضور السلطة ضمن نسيج المَعيش اليومي.
وعلى مستوى آخر، تمكن الإشارة إلى أنّ 2018 لم تشهد صدور أعمال لافتة حول العربية في الغرب كما هو الحال في سنين قليلة مَضت، أشهرها، وليس أهمها، كتاب: "أسلافنا العرب" (2017) للمعجمي الفرنسي جان بروفو، وهو ما يشير ربما إلى تغيّرات في المزاج العلمي الغربي بعد سنوات من التركيز على الآداب واللغويات. وبالمناسبة، نلاحظ أيضاً أن الجامعات الأوربية لم تعد تأوي اليوم مستعربين كباراً، لهم معرفة عميقة بقضايا العربية الحديثة أو الكلاسيكية، كما كان الحال في القرن الماضي.
هذه باختصار الصورة العامة لما وُضع حول العربية هذا العام وهي عاكسةٌ لما هو أبعد من الجوانب المعرفية. فازدهار دراسات اللغة أو انحسارها يشي، لدى أبنائها، إما برغبتهم في فهم الذات أو بجحودهم لمنطق التاريخ ورفضهم لضخّ دماء جديدة في عروقه، كأنهم ارتضوا أن يراوحوا مكانهم، عند الحدود الدنيا من الخطاب النظري الذي ينبغي أن يرافق العمل التاريخي. تطوّرات الكلام عندنا لا يواكبها دَرْس عقلي، يوجِّه التاريخَ وينتقد تلاعباته.