في الفترة الأخيرة، شاعت دعواتٌ ملحّة لتجديد الخطاب الديني في كلٍّ من مصر، بلاد الأزهر، أعرق المؤسسات المنتجة لهذا الخطاب، كما في بلدان الخليج العربي، التي يسود الرأي، خطأ أو صواباً، بأنَّ مجتمعاتها محافظة، فضلاً عن تونس والمغرب ولبنان، وهي بلدان عُرفت عنها النزعة الإصلاحية منذ عقود.
كما أثيرت هذه المسألة، بشكل أكثر إلحاحاً، في أوروبا، حيث يحتك المسلمون بمرجعيات عقائدية وقانونية مغايرة لما في بلدانهم. وتمثّل الرسالة الصادرة مؤخراً في صحيفة "لو باريسيان"، بإمضاء 300 شخصية عامة، منها الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، والوزير الأوّل السابق مانويل فالس، فضلاً عن فنانين من بينهم شارل أزنافور وجيرار دي بارديو، على اختلاف مرجعيات هؤلاء ومواقفهم من الإسلام والقضايا العربية، خيرَ شاهد على ذلك. ففيها أكد الموقعون أنَّ قيم الجمهورية الفرنسية تتعارض، ولو ظاهرياً، مع مبادئ الإسلام التقليدية، والتي لا تُفهم شعائره وبعض مبادئه عبر الشبكات التأويلية التي باتت تحكم العقل الغربي الحداثي.
هكذا، أصبحت هذه المفاهيم والتصوّرات التي تُلصق بالإسلام، بمثابة عائق معرفي وروحي، يصدُّ حساسيةَ الشباب المثقف، من أصحاب التكوين المعرفي الذين يحتلّون مناصب عُليا ضمن المجتمعات الرأسمالية الراهنة (أساتذة، محامون، موظفو بنوك، أطباء، مهندسون وغيرهم...).
ومما يُضاعف من حدّة هذه التناقضات، ضغطُ أحزاب اليمين، وكذلك إصرار الإعلام الغربي على إظهار الصور السلبية للإسلام، للتدليل على عدم تناغمها مع قيم الغرب، وهو ما يَنشر حالة من الاحتراز لدى فئات الأوروبيين الذين لديهم الرغبة في معرفة الإسلام، وربما في اعتناقه. وأعقد ما يواجههم، وأحياناً يصدّهم، حين يطّلعون على تمثلات هذا الدين، هو قضايا حقوق المرأة والأقليات وتنظيم الحياة العامة. وكلها إشكالات فعلية لا يمكن للخطاب الديني أن يستمر في تجاهل شرحها والصمت عنها، كما لو كانت غائبة.
ولئن واجه الخطاب التقليدي هذه الإشكالات بإجابات أقنعت، ولا تزال تقنع، صنفاً معيّناً من المتلقين، إلا أنَّ هذه الإجابات لا تُرضي العقل الحديث، المتلهف من جهةٍ أولى إلى التزام مبدأ العقلانية وما توصّلت إليه العلوم التجريبية والاجتماعية. ومن جهةٍ ثانية، لا تتناغم مع تصوّرٍ عن الدين، يقرنه أساساً بإفاضة الروحانية، بما هي سَفرٌ وجداني نحو آفاق المطلق، تحريراً له من أوضار المادة. ففي مجتمعات الاستهلاك اليومي والعنف الشامل، يلتجئ إنسان العصر الراهن إلى التديّن، طلباً لسكينة القلب، لا لجدل الأصوليين.
وهكذا، فالرهان المعرفي الذي يواجه الخطاب الإسلامي مُزدوج ومعقد، يتعلّق بالحفاظ على صلابة الرؤية العقلانية للكون ومظاهر الطبيعة وقوانين المجتمع، مع التمسك بأولويات البعد الروحي، الذي يقتضي ضرورة بعداً شعائرياً، ولكن دون إكراه أو غُلوّ.
ولذلك يظلّ تجديد الخطاب (بالمعنى الذي يطلقه باختين على هذا المصطلح، ويعني: مجموعة التصوّرات والمفردات الاجتماعية التي تشكل الفضاء التعبيري لثقافة ما) في حاجة إلى تحريره من مجموعة مفاهيم صادمة، باتت مراجعها خارج التاريخ، وغدت بلا مدلول حقيقي يُحال عليه، مثل مسائل الرقِّ وأهل الذمة والحُدود.
أما منهج هذا التجديد فقد يتشكّل بالتعاون المعرفي بين رجال الفكر والدين من جهةٍ، والعاملين في معارف تتقاطع فيها هذه المجالات مثل علم اجتماع الأديان، والأنثروبولوجيا الدينية والفلسفة الأخلاقية من جهات أخرى، من أجل صياغة عناصر هذا الخطاب والبرهنة على عدم تناقضه لا مع الثوابت الأصلية ولا مع قيم الحداثة، ومركزُها الإنسان.
وبناء على هذه الأرضية يمكن أن ينطلق التجديد بمجهودات معرفية ومنهجية لشرح ما يعرف بالآيات "المتشابهة" والمختلف عليها، وبيان سياقاتها الأصلية وأسباب نزولها، أي إرجاعها إلى أطرها التاريخية والثقافية، وليس حذفها وإلغاؤها، كما نادى بذلك حتى بعض المسلمين. ومن الأكيد أنَّ الاكتفاء بمضامين كتب التفسير التقليدية وآراء الأصوليين، لا تجدي كثيراً، لصعوبة تلك الكتب وتشعّب آرائها وعرضها أحياناً لمواقف متباينة وتأويلاتٍ متناقضة.
ربما يكمن الحل في استعادة تلك المادة التفسيرية وتبسيطها وإعادة ربطها بمرجعياتها الزمنية والمكانية، ثم اعتماد ما يتناسب منها مع الحساسية الحديثة. كما أنه من الضروري نشر مفاهيم أصول الفقه وعلوم القرآن بما هي شبكة واسعة من المُحدّدات الدلالية، التي تساعد على بيان ما كان من الآيات عاماً أو خاصاً، مجملاً أو مُفصّلاً، مقيداً أو مطلقاً... فإذا علمنا مثلاً أنَّ جلّ آيات الجهاد مقيّدة بسياقها، سقط نصف الإشكال عنها.
وبما أنَّ هذا المجهود لم يُنجز بعد، نفهم أن تجديد الخطاب الديني مشروع مفتوح، ينبغي أن تخصّص له جهود متعدّدة ومتفاعلة. ولئن قيِّض له أن يُصاغ ويتحقق، فشرطه الرئيس الاستمداد من تَليد العلوم الإنسانية وجديدها.