كارستن نيبور في "العربية السعيدة"

21 مارس 2018
(خريطة نيبور للخليج العربي)
+ الخط -

في عام 1982، أسّس الدنماركيون "معهد كارستن نيبور للثقافات والدراسات الشرقية" في جامعة كوبنهاغن، ثم تحوّل إلى قسم أبحاث أساسي في دراسات الشرق الأدنى، حيث تمثّل العربية، لغة وثقافة وتاريخاً، أبرز المحاور التي ينشغل بها.

اسم المعهد اختير كاستعادة -بعد قرابة قرنين ونصف- للمستكشف كارستن نيبور (1733-1815)، وهو أيضاً عالم رياضيات ورسام خرائط دنماركي-ألماني، أصبح أثره كبيراً بعد رحلته التي حوّلته إلى "مستعرب" مثير للجدل.

في الرابع من كانون الثاني/ يناير 1761، أبحرت باخرة "غرينلاند" من ميناء هيلسنيور (السنيور)، شمال العاصمة الدنماركية، وعلى متنها بعثة من العلماء نحو اليمن، أو ما كان يسمى حينه "العربية السعيدة". كان بينهم علماء لغة وفلك ونبات، وقد ماتوا جميعاً أثناء رحلتهم تلك، باستثناء نيبور.

كان موت خمسة من العلماء المرافقين، نقطة مفصلية في حياة نيبور المستكشف، إذ أصبح قائداً للرحلة، وكتب عن الموت قائلاً إن "عجرفة الغربي وكسله وغطرسته أودت بحياة هؤلاء المستكشفين".

ظنّ نيبور بأنه سينجو إن عاش كالسكّان العرب المحلّيين، فاتّخذ قراره بالاستسلام تماماً لطريقة حياة العرب: دون جلبة وغطرسة على الأهالي، تعلّم اللغة العربية بشكل متقن، وارتدى ملابس العرب وأطلق اللحية وتبنّى العادات، واختار لنفسه اسم "عبد الله".

في ذلك الزمن، سادت في القارة العجوز صورة محكومة بتخيّل "سحر الشرق" و"العرب الغامضين" والرغبة في اكتشافهم بين العلماء، وكان صيت العرب في الأندلس، على الأقل لدى نخب أوروبا، لم ينطفئ بعد.

رفض نيبور، في كتاباته عن "الرحلة العربية"، والمعروفة أيضاً بـ"استكشافات نيبور"، وصف العرب بأنهم "مفترسون وسيّئون ويسرقون وينهبون قوافل المسافرين في الصحراء"، ورغم ذلك يعترف "نعم إن كنت مسافراً لوحدك فالفرصة قائمة ليسرقك بعضهم في الصحراء".

ليس غريباً إذن، حين نقفز إلى ما بعد قرنين ونصف على رحلته، أن نجد في بلد نيبور، متعصّبين قوميين كارهين للعرب، وهؤلاء فيهم من يهاجمه كمستعرب دافع عن العرب، وينتقدون قوله بأن "السيئين منهم يوجد مثلهم في أوروبا أيضاً، سكاكين وقتل وصراخ واختلاف داخلي وانتقام".

في عصر نيبور، كان الجهل بالعرب، دافعاً لبعض العلماء للتفكير في أهمية أن تكون للدنمارك رحلتها الاستكشافية الخاصة نحو "العربية السعيدة". كان لعلماء اللاهوت أثرهم في إقناع الملك "فريدريك الخامس" لدعم الرحلة، فهؤلاء سعوا وراء أجوبة على ما جاء في "الكتاب المقدس"؛ مئة سؤال وضعت كأهداف للرحلة الاستكشافية، جميعها مرتبطة بنصوص إنجيلية، ولم يكن فيها بحث عن فهم العرب. أعدّ الأسئلة عالم اللاهوت، والمستشرق الألماني، يوهان دافيد ميكاليس، الذي اهتم بالقوانين اليهودية وتطبيقاتها على غير اليهود. وعزّز ميكاليس طلبه للملك باعتبار "طبيعة هذه البلدان ما زالت غنية بإمكانياتها التي نجهلها".

اهتمّ الملك بهذه الرحلة بشرط أن يحرص الرحالة على "شراء مخطوطات شرقية للمكتبة الملكية، ونسخ الكتابات التي يعثر عليها، وتسجيل المشاهدات حول استخدامات اللغة العربية، وهو الهدف الرئيسي لإلقاء الضوء على بعض الجوانب الغامضة للكتاب المقدّس"، وبذلك منح هؤلاء "أوامر ملكية لمباشرة رحلتهم".

في رحلة بحرية صعبة وصل هؤلاء إلى الإسكندرية في مصر، ومنها نحو الصعيد وإلى سيناء، وبدأ العلماء ينقّبون ويبحثون في كل القضايا المتعلّقة بالطبيعة والسكان. من السويس انطلقوا نحو جدّة، ومنها نحو اللحية في الشاطئ اليمني، "على ظهور الحمير والجمال وكل وسيلة ممكنة تنقلنا براً، فيما تنتظرنا الباخرة في موانئ أخرى"، كتب نيبور.

استطاع هناك وضع خريطة تفصيلية لليمن، لم يطّلع عليها الأوروبيون قبل ذلك. ومن المخا، التي ارتبط اسمها بسوق القهوة حتى القرن التاسع عشر، وباسمها تعرف قهوة "موكا" اليوم، انطلق نيبور وزملاؤه نحو بومباي في الهند، التي كانت تحت الاستعمار الإنكليزي، وبقي فيها أكثر من عام، وخلال الإبحار توفي عالمان. ومن عُمان في 1765، غادر إلى بلاد فارس، ثم أخذت الرحلة نيبور من إيران نحو العراق فسورية وفلسطين وقبرص وتركيا، ووصل كوبنهاغن في تشرين الثاني/ نوفمبر 1767، أي بعد ست سنوات من رحلته.

في 1772، أصدر نيبور كتابه "وصف للعربية" (Beschreibung von Arabien). ثم، في 1774 و1778، صدر المجلد الأول والثاني من "وصف رحلة إلى العربية السعيدة والبلدان المحيطة بها".

في الجزء الثالث، قدّم وصفاً لما اكتشفه زميله، عالم النباتات والطبيعة السويدي بيتر فورسكول، عن الحياة البرية والحيوانية في المنطقة. في تلك السنوات بدا أثره كبيراً في تبني نابولي، كمركز خرائط في ذلك الزمن، والبحرية البريطانية في رحلاتها الاستكشافية لاحقاً، خريطته التي وضعها لليمن والقاهرة والبحر الأحمر.

الأثر اللغوي والثقافي لنيبور تخطى المهمّة التي رُسمت لهذا المستعرب، وكان للمجتمع العلمي المحيط بالرحالة المستكشفين أهدافه المختلفة. بعضهم كان يرغب، وخصوصاً علماء اللغة، في الحصول على نصوص أصلية باللغة العربية، فيما كان آخرون ينظرون إلى مقاربات دينية تتعلق بعلاقة التوراة والإنجيل بتلك المناطق العربية.

عانى نيبور كثيراً من الطبقة العلمية، الدنماركية والألمانية، التي رأت فيه مستعرباً تخطى الحدود، فأصبح يتصرّف كعربي. تعرّض لمحاولة تسميم بالزرنيخ من قبل أحد العلماء الرافضين له. كان نيبور قبل رحلته متأثراً بالعلوم العربية، واختار استخدام الإسطرلاب لقياس خطوط الطول بناء على وضعية القمر، فيما الخطوط العرضية على وضعية الشمس.

وبعد رحلة شاقة مليئة بالمخاطر وقسوة الأوضاع، وموت الزملاء، كان نيبور صاحب الهيئة العربية، لباساً وتقليداً، وجد نفسه من جديد في بلده، ولكن في عالم مختلف. فالملك الذي وافق على رحلته وموّلها رحل، وأصبح ابنه كريستيان السابع ملكاً باهتمامات أخرى غير اهتمامات أبيه في اللغة والثقافة العربية.

كريستيان السابع عاش تلك السنوات متنقلاً في حانات كوبنهاغن، يعاقر الشراب ويبحث عن دور الدعارة في مينائها. وكل ما جمعته الرحلة من نباتات، وأحضرته من حيوانات عربية، ذهبت هباء ودُمّرت الأدلة لعدم الاكتراث والتمويل للحفاظ عليها. لم يأبه نيبور لكل هذه المتغيرات فباشر خلال عشر سنوات بإصدار خمسة مجلدات عن العرب وثقافتهم، أثارت حين طبعت انبهاراً كبيراً عند المهتمين والطبقة العلمية.

في النرويج، التي كانت تحت تاج الدنمارك، انتبه العلماء لهذا الرحالة، فمنحوه منصب رئيس خرائط النرويج، ليضع خريطة تفصيلية للبلد. مرّت سنوات طويلة قبل أن يصبح للرجل مكانته في بلده، وخصوصاً في "جامعة كوبنهاغن" وبقية جامعات أوروبا. أتى حريق كوبنهاغن الكبير في 1795 على الكثير من أعماله، لكن أعماله العربية بقيت صامدة.

لم يكن نيبور، كما اتّهم ويُتهم حتى يومنا من منتقديه، مجرّد مستعرب يدافع ويبرّر كل ما تعلّق بتصرفات وممارسات عرب ذلك الزمن، بما فيها "السطو على قوافل المسافرين والحجاج وعدم تناول الطعام مع شخص مسيحي". أكثر الانتقادات الموجهة لنيبور هي أنه أجرى دائماً في كتاباته مقاربات عن الصورة النمطية التي سادت عن ممارسات العرب ومثيلاتها في أوروبا، بما فيها تلك المرتبطة بالسلب والقتل والرق.

كانت له نظرته الناقدة أيضاً لتلك الصورة النمطية، كتب مثلاً "يسود في أوروبا (أعوام 1700) اتهام للآباء المحمديين (أي المسلمين) بأنهم يبيعون بناتهم، في الحقيقة هذا يحدث قليلاً جداً كما يحدث لدينا (في أوروبا)". وقدّم نيبور للقارئ الأوروبي أيضاً نظرة شاملة عن "حياة البداوة" و"حياة المدن"، لكنه بكل تأكيد لم يترك شاردة أو واردة لم يقدّمها عن حياة العرب والمسلمين، من التربية إلى الاعتقاد والموت وحياة الرجال والنساء، واللغة والعلوم. فمهمته في دراسة العرب قدّمت أكثر من طلب اللاهوتيين أجوبة على أسئلتهم حول النصوص وتاريخ الإنجيل.

أثرُ نيبور، حول العرب والمسلمين، رفع من شأنه لاحقاً، حتى أصبحت كتابته ومؤلفاته أحد أهم المراجع عن العرب وتاريخهم وثقافتهم ودينهم وتفاصيل حياتهم. وتُفرد المكتبة الملكية في كوبنهاغن اهتماماً بالغاً لنصوصه ومختلف آثاره. كما أضحى "معهد كارستن نيبور" أحد أهم المؤسسات الأوروبية التي يقصدها الباحثون لتعلم العربية وفهم تركيبة حضارتها، فالإقبال الذي بدأ بطيئاً ولدى النخب خلال قرنين ماضيين، بات اليوم حركة متنامية وملحوظة، وتلك قصة أخرى تثير الاهتمام عن انتشار دراسة الثقافة واللغة العربية خلال العقود الأخيرة بشكل يفوق تعلم لغات سامية أخرى في جامعات الدنمارك المختلفة، بكليات تتسع أكثر فأكثر محتوى وبحثاً، رغم أن نيبور كان البؤرة التي أطلقت شرارة الاهتمام منذ قرنين ونصف القرن.

المساهمون