يوقّع الكولونيل أوريليانو بوينديا في رواية ماركيز، "مئة عام من العزلة"، صكّ إنهاء الثورة التي كان يقودها حين يُدرك أن الثوريّين جميعاً كانوا يبحثون عن السلطة لا عن الحرية.
وحين يعود إلى بيته، يفكّر أنه حقّق انتصاراً صغيراً على الرغم من هزيمته، أو أنه فاز بهزيمة مشرّفة، لأن يقينه، كما تقول الرواية، "بأنه حارب في سبيل حريته بالذات، وليس في سبيل مثُل عليا مجرّدة، أو في سبيل شعارات يمكن للسياسيّين أن يقلبوها على هذا الوجه أو ذاك حسب الظروف؛ بثّ فيه حماسة متأجّجة".
ولعلّ واحدة من أكثر الأمور غموضاً، أو التباساً في الثورات هي شكل المشاركة التي يعمل البشر من خلالها، فإمّا أن يَعتبر الأفراد مشاركتهم أمراً خاصاً يدافع فيه كل واحد منهم عن نفسه وأمنياته وأفكاره وحريته، وهو في هذا السبيل سوف يُعتبر مدافعاً عن القيم الإنسانية، أو يختبئ خلف الشعارات. فالشعار الذي يستطيع أن يلخّص المطالب في إحدى اللحظات الثورية، قد يتحوّل إلى لغم صالح للاستخدام في أمكنة مختلفة، حين لا يرى كل من حمله أنه يخصّه هو وحده.
وفي معظم الروايات العربية، كان الثوري يزعم أنه يدافع عنّا، عنهم، عن قيم الجماعة وأحلامها، عن التطلّعات التي تخص الشعب، أو الجماهير، ومن النادر أن تجد بطلاً ثورياً يصرّح أن اشتراكه في أي ثورة، أو حلمه بالحرية، يعني بحثه عن حريته كإنسان، عن ذاته.
وكان الشعار مقدّساً أكثر من البشر، والأمر يشبه إيمان روبسبير بالمبادئ: "لا يمكن التنازل عن المبدأ، لكن يمكن أن تَقتُل من أجله"، و ثمّة الآلاف ممن يموتون بالمقابل دفاعاً عن الشعارات التي يسمّونها مبادئ.
وفي الغالب، كان النقد العربي الذي أولى موضوع الثورة، يُدين الأفراد الذين يبحثون عن حريتهم لصالح أولئك الذين "يناضلون" من أجل المثل العليا، والراجح أنه موقف سياسي يضع النقد في حالة تأهّب لمقاضاة أي فرد يعلن أن الحرية هي قضية شخصية أولاً.
ولم يثبت، على أي حال، بعدُ، أن ثورياً واحداً في الواقع أو في الرواية قد أخلص للمُثُل العليا أو للشعارات التي طرحتها الثورات، وقد كان الخط الصريح هو خيانة الشعار أو استخدامه في غايات الربح والاستبداد.
وعلى الصعيد الواقعي، لا زلنا نجد بين "الثوريّين" من يرفض التعاون مع "ثوري" آخر بسبب اختلافهما في الشعار، على الرغم من وحدة القضية، وهناك خلافات تتحوّل إلى حروب كراهية بين "الثوريّين" سببها تفصيل صغير في بيان سياسي ينادي بالحرية، بينما يدّعي الجميع أنهم يكافحون من أجلها.
ولا يبتعد المثل الذي يتحدّث عن أن الثورات تأكل أبناءها عن الحقيقة، فالشواهد كثيرة في التاريخ البشري. ومثلما أَعدم أوريليانو بوينديا في رواية ماركيز أحد أفضل أعدائه، كاد يُعدِم أحد أفضل ضبّاطه الذي وقفوا معه في الثورة، والسبب ليس خيانة الثورة، بل الاعتراض على شروط الاستسلام، لكن التصحيح لم يأت من التمسُّك بالمبادئ السياسية، أو أفكار الثورة التي هُزمت، بل من الاستماع إلى ضمير الأم.