منذ أن أُطلِق مشروعُه في 2013، كان "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" مناسبة لكي توضع صناعة المعاجم تحت ضوء الأسئلة العربية الراهنة، إذ لم تحظ هذه المسألة باهتمام فكري يذهب أوسع من مسائل تقنية داخل نطاق حقل المعجمية، أو الإشارة إلى ضرورة وضع مصطلحات علوم بعينها للتداول المعرفي.
قلما طُرح سؤال المعجم في سجالات الثقافة العربية على كثرتها اليوم، وكأن نفس الثقافة لم تتعدّد معاجمها وقواميسُها منذ أن فكّر الخليل بن أحمد الفراهيدي في "معجم العين" في القرن الأول هجري. وكأن العصر الذي نعيش فيه لا يستدعي طاقة مضاعفة لمجاراة ما يطرأ فيه من مستجدات معرفية سرعان ما يوازيها تضخّم في كمية المفردات في العلوم والفنون. وكأننا أيضاً لا نجاور أمماً تُسابق الزمن في صناعة المعاجم، تارة تستعير كلمات من لغات أخرى، أو أنها تولّد ألفاظاً من مخزون كلامها القديم.
ها هي مسألة المعاجم تفتح على هوّة مخيفة؛ تلك الوضعية التي طالما أرهقت العقل العربي المعاصر، حيث تبدو اللحظة الراهنة في موقع منخفض مقارنة بالماضي العربي وبالحاضر الأجنبي، ما يولّد شعوراً بالنقص يصبح من جانبه مكبّلاً إضافياً من مكبّلات التدفّق الثقافي.
قد لا ننتبه إلى أن المعاجم نفسها تمثّل مخرجاً من هذه المتاهة، فهي بالذات أداة تعتمدها الثقافات كي تردم الفجوات المعرفية مع الآخرين، حيث أن انتقال معجم متخصّص في مجال ما كثيراً ما يكون له أثر إيجابي. وهذا ما نلمسه في العربية نفسها، حيث كانت ترجمة معاجم في النقد الأدبي واللسانيات وعلم النفس وبعض الحقول المعرفية الأخرى مثل مسافة قُطعت على الأمام.
من جانب آخر، فإن تطوير الصناعة المعجمية في ثقافتنا يساهم في التخلّص من محورية المعاجم القديمة، فلا يزال "لسان العرب" إلى يومنا أشهر مراجع الضاد، في حين أن معظم مداخله مما يستعصي على قارئ متوسط الثقافة. أن ننجز اليوم مشاريع معجمية كبرى يساهم بلا شك في بناء مناخ ثقافي أكثر أريحية من الذي نعيش فيه، ومن أبسط ما يعود به علينا أنه يتيح التعامل مع التراث بندية أكبر.
يبقى أن علاقتنا اليوم بالمعاجم لا تزال منفعية إلى حد كبير، حيث أن المعجم لا يحضر في الغالب إلا كوسيلة لتلبية حاجة سريعة، نفتحه لالتقاط معنى كلمة ثم سرعان ما نغلقه ونعيده إلى مكانه. إنها علاقة لم تتجاوز كثيراً علاقة التلاميذ بالمعاجم، ربما تتعداها قليلاً منذ أن نبدأ في استعمال المعاجم المزدوجة مع تعدد اللغات التي نتحدثّها.
لكن هل يمكن أن تكون لنا علاقة أخرى مع المعاجم؟ علاقات نفسية وفكرية كالتي ننشئُها مع مؤلفات المفكرين ومع الروايات والمجموعات الشعرية؟ يقودنا ذلك إلى زاوية أخرى من مسألة المعاجم.
ها نحن ننظر في الثقافات من حولنا، فيعسر علينا أن نجد مجالاً ليس له معجمه من كرة القدم إلى مصطلحات دراسات الأدب المقارن. ولو تتبعنا الأمر، سنجد أن ذلك يحدث بجهد من المؤلفين، وباحثين فرادى وجماعات، ومن ناشرين يخصّصون سلاسل للمعاجم. هؤلاء هم الذين يدفعون قطاعاً ثقافياً، وهؤلاء هم من ينبغي لهم أن يضخوا الدماء في صناعة المعاجم العربية.
النظر في الثقافات الأخرى سيظهر أيضاً أن المعاجم على عكس ما نعتقد مادة طيعة لمختلف ما يمكن قوله. مثلاً، وللحديث عن تحوّلات العالم المعاصر، وضع المفكر الفرنسي إيف ميشو كتاب "نرجس وأقنعته" واتخذ له شكل المعجم فوضع حسب الترتيب الأبجدي كلمات ستأخذ مكان مفردات مرشحة للاختفاء، مثل: تصميم بدل فن، ويوتيوب بدل ثقافة. وفي عمل آخر، وضعت الكاتبتان البريطانيتان إيلا برتهود وسوزان إلدركين معجماً بعنوان "استشفاء أدبي"، حيث تعدّدان في المداخل المشاكل النفسية فيما يقوم المتن بالإشارة إلى أعمال أدبية مرتبطة بها. كما وضع الكاتب الفرنسي فرانسوا بون سيرته الذاتية من خلال معجم عدّد فيه الأشياء التي تربطه بالعالم.
ها هي المعاجم وقد قوّلها مؤلفوها بكل ما يريدون، تتغلغل في كل الميادين، وتتحرّك بأريحية. بقي من يفهم أسرارها، ويحسن ترويضها والتحكّم فيها ومن ثمّ توجيها إلى أهدافه البعيدة.