عمران مهزوم.. عنف بصري في فلسطين

18 نوفمبر 2018
(من رام الله، 2002، غراهام موريسون)
+ الخط -

كان من اليسير على أي باحث عن النمط المعماري الفلسطيني، قبل النكبة، أن يلحظ خطّاً نموذجياً عمرانياً واصلاً أبرزُ سماته استجابتُه للمتغيّر الطقسي: رطوبةٌ عالية في الساحل اقتضت بناءً يخلو من الحجر على جدرانه الخارجية مكتفياً بطلاء جيري أبيض، وطقسٌ جاف في المناطق الجبلية التي طوّرت نظاماً بنائياً أكثر تعقيداً من مدن الساحل، نظراً لبرودة الأجواء شتاءً وجفاف طقسها صيفاً، ناهيك عن أن هذا النموذج لا يتوقّف عند حدود استجابته لمتغيّرات الطقس فقط، إذ يظهر تأثُّره بالنمط البنائي العثماني جلياً، من خلال البناءات العالية مربّعة الشكل، وقد أُضيفت إليها مجموعة من الفتحات العلوية، إلى جانب المساحات الفارغة التي تتوسّط المبنى.

ولعل أبرز ما نجحت دولة الاحتلال في فرضه، إلى جانب سيطرتها على حياة الفلسطينيّين، ذلك المشهد البصري القسري الذي يحتلّ مرتفعات الجبال والسفوح الفلسطينية بكتلٍ إسمنتية تتجاوز في وظيفتها الدور الإسكاني الاستعماري الزاحف إلى ما يمكن أن يُطلَق عليه "العنف البصري".

يتكثّف مفهوم العنف البصري في مشهدية المستعمَرة القابعة على السفح الفلسطيني، في اعتدائها المزدوَج على التاريخ والجغرافيا الفلسطينيَّين على حد سواء، وإمعانها في ابتزاز المشاعر البصرية للفلسطينيين، إذ تستحيل صورة الأرض في الذهن الفلسطيني من حالة الثبات والصلابة إلى حالة مائعة مطوَّعة وقابلة للذهاب في أية لحظة. هكذا، تتحوّل المستعمرة بهندستها البصرية الخاصة، أعلى السفح، إلى واحد من أبرز تجلّيات الاستلاب.

ينتمي عمران المستعمَرة، أو طراز بنيانها وتخطيطها، إلى ذهن "إسرائيلي" مسكون بهواجس تفوّقه على المستعمَرين من جهة، ورغبته الانعزالية المسكونة بهواجس الخوف ونفي الآخر من جهة ثانية. وإضافةً إلى المكان/ السفح الذي تتّخذه المستعمَرة دائماً في وجودها على الأرض الفلسطينية، تتميّز هذه المباني بتقشّفها الشديد في التفاصيل والزوائد والألوان، واستهلاكها النهم للمساحة عبر مكعّبات بنائية بيضاء متحرّرة من الزخرفة، تعتليها أسقف من الطوب الملوّن أو القرميد.

وفي مقابل هندسة المستعمَرة، يتجلّى واحد من أبرز عوامل هزيمة المعمار الفلسطيني أمام "النموذج" الاستعماري للبناء "الإسرائيلي"، أو ما أَطلق عليه يوماً فرانز فانون حالة من حالات افتتان المغلوب بالغالب، أو محاكاة المستعمَر للمستعمِر منطلقاً بذلك من شعوره بالدونية، إذ لا تتوقّف حالة المحاكاة عند حدود استجلاب واستنساخ النموذج البنائي "الإسرائيلي" فقط، بل تصل إلى مرحلةٍ تشوّه أشكال بناء المعمار الفلسطيني، وافتقادها إلى سمة طرازها التاريخي وغياب نمذجة محدَّدة، إذ صارت الأبنية الفلسطينية برمّتها تتراوح ما بين البذخ الاستعراضي للقدرة الاقتصادية، والتقشّف الشديد وما يترتّب عنه من بشاعة في الشكل العام للمدينة أو القرية، كلّ هذا في غياب هوية مرجعية ودلالات ثقافية تدل على سياق اجتماعي ثقافي واضح.

قد يبدو من اليسير الإشارة إلى دور اليد العاملة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني المحتلّ في جلب واستنساخ هذا النموذج، وهي عمالة مرسّخة في معظمها في أعمال البناء والتعمير والحدائق، حتى باتت الكثير من أحياء المدن الفلسطينية الجديدة منزوعةً من أحد أحياء المستعمرات القريبة.

لم تتوقّف هزيمة المعمار الفلسطيني أمام استنساخ النموذج البنائي المتقشّف للمستعمَرة، بل باتت عملية تصميم حدائق المنازل مستنسَخة تماماً عن نموذج الحدائق الإسرائيلي بما فيه أنواع النباتات وأشكالها وألوانها، بالإضافة إلى الاستغناء التام عن مجموعة الزهور والنباتات التي لطالما كانت حاضرةً في كل الحدائق المنزلية الفلسطينية على مر العقود.

لكن، لا يبدو رأس المال الفلسطيني بريئاً أيضاً، إذ أن المدينة الجديدة "روابي" شمال رام الله، التي أنشأها رجال أعمال فلسطينيون منذ خمس سنوات ليست بعيدة عن هذه الحالة؛ حيث يظهر تصميمها منسجماً مع منظومة طراز البناء في المستعمرة سواءً في الشكل أو التصميم. ولولا وجود إشارات طرق تدل إليها، لاعتقد البعض أنها واحدة من المستعمَرات "الإسرائيلية" التي تلتهم الأرض الفلسطينية من دون رحمة، ناهيك عن افتقاد المدينة الجديدة إلى خيط معماري فلسطيني ملتزم ببعدَيه الذاتي الفلسطيني الخالص والمشرقي المستلهَم من الحضارة العربية والإسلامية في البناء والتصميم والتعمير.

وإذا كانت المدن الفلسطينية الكبرى تُقدّم نفسها على أنها قادرة على إعادة إنتاج الشكل التراثي من البناء، وهو شكل يقتصر في مجمله على واجهات تجارية لا تُحدث فرقاً ثقافياً عميقاً بالمجمل، فإن المدن المهمَّشة البعيدة عن المركز، قد تُركت في مكان ما فريسة سهلة لاندثار هويتها وهزيمة عمرانها أمام طغيان "النموذج" الاستعماري من جهة، وتواضع قدرة ساكنيها على تقديم نموذج هوياتي يُساهم في المحافظة أو في إعادة إنتاج الشكل الحضاري للبناء.

وأمام حالة التأثّر بعمارة الاحتلال وما نجم عنها من تشوّه في المدينة والقرية الفلسطينيّتَين، لم تأخذ التجمُّعات الفلسطينية، وخصوصاً تلك البعيدة عن مراكز المدن الكبرى، حقّها من دراسة المعمار، حيث لا دراسات جدية تطرح إشكالياتها، ولا أبحاث تتناول ما يمكن أن يُطلَق عليه هزيمة المعمار الفلسطيني أمام تصميم بنائي "إسرائيلي" طارئ وممتدّ على الأرض الفلسطينية من أقصى الشمال إلى الجنوب.

المساهمون