منذر جوابرة: أجساد تقرأ المستقبل وتهاجر إليه

13 أكتوبر 2018
(من المعرض)
+ الخط -

ثمّة معادلة لا يخرج عنها الفنان الفلسطيني، منذر جوابرة (1976)، في أعماله الفنية في السنوات العشر الماضية؛ إذ يحضر الحدث السياسي كمحور أساسي يُعيد تناوله وترتيب وقائعه وكيفية تفاعل الذاكرة الفلسطينية معه، في محاولة لصياغة الواقع خارج كلّ المفاهيم والصور التي تُفرض كنوع من التعويض أو التبرير أو التعسّف في مواجهة التحوّلات الجارية على الأرض.

في معرضه "أجسادٌ مهاجرةٌ"، الذي يتواصل في غاليري "دار المشرق" في عمّان حتى الخامس والعشرين من الشهر الجاري، يختار جوابرة زاوية نظر معكوسة يمكنه من خلالها فهم الصراعات والانقسامات الجارية في العالم العربي في الأعوام الأخيرة.

يشير في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أن "دوري الإنساني وواجبي الفني أن أقرأ اللحظة الراهنة التي يعيشها الفلسطيني لأول مرّة في موقع المتفرّج على الحروب الداخلية العربية، بعد أن مثّل لأكثر من ستّة عقود مركز الاهتمام والتضامن".

بعد مقاربته ثنائية الألم والموت في معرضه السابق "علّو" (2017)، بدأت النهايات كمفهوم تأخذ حيزاً واسعاً في تجربته، وبات كل ما يرسمه يحيل إلى السوداوية التي تسكن واقعنا، ما دفعه للتفكير بضرورة أن يخرج من هذه الحالة ليقدّم قراءة أخرى "متفائلة" تحتفي بالحياة كامتداد للمواضيع التي اشتغل عليها؛ الاحتلال والأسرى والشهيد والملثّم، وليس باعتبارها قطيعة عنها.

يتتبّع جوابرة في أعماله المعروضة، بَشراً لا ينتمون إلى المكان وحدوده حيث تنطلق أجسادهم في رحلة نحو فضاءات مفتوحة؛ حيث لا يتعّين المكان في اللوحة بالمعنى المادي للأشياء، لكنه يلفت إلى أن الفضاء هو مكان في النهاية، حيث الزمان هنا لم يعد يعني الحنين إلى الماضي بل قراءة ربما تكون "مستعجلة" للمستقبل، وكأنها تحاكي ردة فعل الجماهير ضد الأيديولوجيات والهويات سعياً للتخلّص من قيودها.

واحد وعشرون عملاً يحتويها المعرض تمثل نزوعاً نحو عوالم فانتازية يمتزج فيها الواقع والمتخيّل، منفَّذة بالأكريليك على القماش بعد أعماله السابقة التي تنوّعت بين استخدام الزيت والكولاج ومواد مختلطة والطباعة وإدخال الصورة، حيث "الموضوع هنا حامل لنفسه ولا تخدمه وسائط أخرى".

يطرح جوابرة رؤيته لشخوص "تلتحم وتتضامن لتحمي نفسها بنفسها، عبر طقوس متنوّعة ما بين الرقص والحركة وديمومة الطاقة التي يبثها الإنسان في وجوده ضمن حالة السلام التي يتبنّاها بعيداً عن كل أنواع التطرف"، ضمن تصوّر استباقي للزمن.

تبدو هذه الأجساد المهاجرة في منطقة برزخية لا تستقر على أرض أو تستعد للطيران أو تحلّق متخفّفة من أثقالها أو تتراقص؛ "مرحلةٌ أكثر إشراقاً هاربةٌ من الموت والمجهول إلى عالمٍ يضجّ بالاحتفاء، وهو ما سنراه بعد كل هذا الخراب الذي عصف بهذا العالم أخيراً"، كما يصفها الفنان.

ويرى أن "الوعي يخلق اليوم حالة من الاصطدام والمواجهة نحو التحرّر، ورغم كل الإحباطات من حولنا إلا أن هناك محاولة لدى كلّ واحد منا للبحث عن ذاته وتقديم أقكار تحريضية من أجل التغيير الذي لم يتحقّق بعد"، موضحاً أن "موقف الفنان والمثقف ينبعان من كونهما شريكا في ترك الأثر وإعادة استقطاب الإنسان حتى تتاح له فرصة التعرّض إلى المعرفة والجمال والثقافة، وذلك يأتي عن طريق إشراكه في ممارسة الفن، أو إعادة اكتشاف الناس بوساطة الفن".

يقودنا هذا الحديث إلى التوقّف عند مفهوم الفن التفاعلي لدى جوابرة الذي يعتقد بأنه "لعب مراراً وتكراراً في إعادة سؤال ما هو الفن ولماذا وكيف؟ مما ساهم ذلك في الحفاظ على أهمية الفن ودوره في رسم سياسات غير مباشرة بأثره وفعله على الجمهور، ولاحقاً الفن المجتمعي الذي تحوّل إلى مشروع إصلاحي إن صح التعبير في تنظيم ما شوّهته العمارة الحديثة واللا انتماء الذي تعاني منه الفضاءات العامة".

ويلفت إلى أن "كل ذلك أعاد السؤال مرة أخرى: ما هي مساهمتي كفنان في صناعة بيئة مختلفة؛ وماذا يمكنني أن أُحقّق من التخيّل التنظيري إلى فعل واقعي يؤثر بشكل واضح على السلوك الإنساني، وهو بالضرورة في حالات معينة يساعد في تقديم مشروع فني يرتقي بالإنسان أولاً ويقدم صياغة فنية بالدرجة الثانية، ويصبح الفن حواراً جمالياً يُحقّق المنفعة للإنسان بشكل يتناسب مع الروح البيئية والثقافية للمنطقة، ويعيد دراسة المكان مرتبطاً بالإنسان لا بمعزل عنه".

"الفن التفاعلي والمجتمعي ربما يمكن تشبيهه بنشاط فني يقوم على الشرح والحوار والتوقّعات والاكتشاف أيضاً، ويضعك أمام حقيقة ثابتة بالتطور والاختلاف مع الآخر وأن ما يمكن تبنيه من موقف تجاه المجتمع ليس ثابتاً بل متغيّر تبعاً للحدث"، وفقاً لجوابرة، الذي يؤكد أنه "بالضرورة يساعد على ربط مباشر مع الناس والشارع، ما يعني متابعة أدق التفاصيل بعيداً عن طاولات المقاهي ورواية النظام الذي يكرّس مفاهيم مختلطة تتبع المصلحة الذاتية".

يتابع "لقد بقيت مع هذا الفعل حراً ومنتمياً دون المراقبة البعيدة، بل عبر الاغتراف من المناطق المهمّشة ومن الناس المنسية"، مشيراً إلى أن "العملية ربما في واحدة من أجزائها تُعتَبر تكاملية وفي جزء آخر ضدية، لكن ما أشعر به أن الفنان غير قادر على الانغلاق مع الذات والعيش وحيداً مع أعماله أو بينها وهو بحاجة من وقت لآخر إلى أن يكسر النمطية التي قد تورطه بالتقليد والعادي، وما بين المكانين يمكن إيجاد مكان وسيط أو مشترك لأن يجمع بين الميزتين دون أن تختلط عليه طرقه ويضيع في متاهة النظامين، لأن كلّاً منهما يحمل خصوصية في التعامل والتفكير".

يوضح جوابرة: "أجد نفسي سائراً في خط فني واضح، وحينما أحتاج إلى أن أكون وحدي أو أعيد التفكير بما جمعته من رصيد اجتماعي، أعود به إلى المرسم وأعيد صيغته إلى جمهور ثالث يعيد معي اكتشاف وفهم وقراءة الواقع الضبابي الذي يصعب التقاطه مباشرة في الشارع".

حول مشاريعه المقبلة، يقول: "الحلم الذي ما فتئت أفكر به، أن تكون هناك مساحة كبيرة من مدينة أو قرية تزخر بكل تفاصيلها بملامح فنية أفلاطونية، نتنفس من خلالها وأن تكون نموذجاً ودليلاُ على أن الفن يغيّر ليس بالبيئة إنما بالسلوك الإنساني".

يختم جوابرة حديثه إلى "العربي الجديد" بالقول إنه يحلم بـ "إعادة ترتيب مدننا وعمارتنا من الفن وبالفن؛ بشوارع خضراء ونظيفة وحارات ملوّنة وانتماء إلى الفضاء العام"، مضيفاً أنه يسعى إلى جعل الفن متاحاً للجميع بعيداً عن الورشات الفنية المجتمعية أو البرامج القصيرة، بل بأن يُصبح كلّ إنسان مساهماً في جزء من هذا المشروع، ليتحوّل الأخير من الفنّانين إلى الناس، حتى يُجسّدوا أحلامهم وفضاءاتهم التي يرغبون بها.

المساهمون