"ولدتُ في سورية": تجوال صامت في المصائر

23 يناير 2017
(مشهد من الفيلم)
+ الخط -
أصبح هنالك عشرات الأفلام الوثائقية التي ترصد مأساة اللاجئين السوريين، بعضها لا يتعدّى كونه مشروعاً دعائياً أو حتى أشبه بأُعطية معنوية تمنحها مؤسسات يجوز وصفها بأسماك قرش بشرية. لكن بين هذه ما هو جدير بالتوقّف إزاءه مطوّلاً، هناك وثائقيات تختلط فيها واقعيّة الحكاية التراجيدية على المتلقّي وتخرج عن حدودها الآنية، وتُشوِّشُه حقاً -وهذا حسنٌ- فتتحوّل في زمن قصير إلى ما يشبه أسطورة تراجيدية. طالما كانت الأساطير، أحياناً، أشدّ تأثيراً من الواقع المؤقّت والفاني، كنزاً مشعّاً في ذاكرة الشعوب.

قد يكون "وُلدتُ في سورية" (80 دقيقة)، للمخرج الأرجنتيني إرنان زين، ومراسل الحروب المعروف في الصحافة، من أفضل الأفلام الوثاقية التي تناولت قضية اللجوء بوجهها الأشمل اليوم. وإذا كان ثمة من أبطال في الفيلم فهم الأطفال اللاجئون، بل نظراتُهم التي تحكي كلّ شيء، تلك النظرات التي رغم غِضّتها تقطرُ آلاماً لا يمكن لعين أن تتفاداها بنظرة لا مبالية.

في فيلمه هذا، الذي افتُتح في صالات السينما، الجمعة الماضي، يعود إرنان زين (بوينس آيرِس، 1971) مجدَّداً، بعد النجاح الذي حقّقه فيلمه الوثائقي "وُلدتُ في غزّة" 2014، ليفرش أمام عيون المجتمع الأوروبي الجراحَ العميقة المفتوحة في المنطقة العربية.

سبعة أطفال سوريين هم أبطال الفيلم، يروون، رفقة عوائلهم، فظائع الحرب التي ما زالت تُدمي بلدهم منذ قرابة ستة أعوام. يمكن أن يعتبروا أنفسهم محظوظين لأنهم بلغوا أوروبا ونجوا بحيواتهم، لكنهم على الأرجح لا يعون ذلك، وعيونهم ما تزال معلّقة في تلك الأمكنة التي تعرّفوا فيها على تفاصيل الحياة الأولى.

عبر ما يرويه الأطفال، نتعرّف في الفيلم على انتهاكات المافيات، وعلى ضراوة البحر، وعدم اليقين حول مستقبلٍ يواجهه معظهمم، ونكتشف أن وصولهم إلى وجهتهم ليس سوى بداية أوديسا جديدة: الاندماج في أرض جديدة لا أحد يعرف حتى مواعيد الأمطار فيها.

يبدو الفيلم مثل تجوال صامت بين مصائر أولئك الأطفال الذين استقبلتهم أوروبا بخيم النزهات أو الصناديق المعدنية الكبيرة في أحسن الأحوال، وأغرقت عوائلهم في بيروقراطية مُعذِّبة، لا تنتهي. يقتفي المخرج بكاميرته أثر رحلة النزوح من سورية إلى أيادي المهرّبين ثم إلى المياه الخطِرة على متن قوارب من مطّاط.

قصص لا تنتهي بذلك السوء، وأخرى تنتهي على نحو مأسوي استطاع إرنان التقاط صور صادمة عنها من داخل المخيمات، حيث المعاناة والحيرة التي تُضرم اليأس والعنف والفوضى. قد يكون أهمّ ما صنعه هذا الفيلم هو الذاكرة التي ستبقى طويلاً مثل وشمٍ في العيون، تلك النظراتُ الطفولية المبتورة.

المساهمون