دانيلو مارينو: بذور عربية في الأدب الإيطالي القديم

02 سبتمبر 2016
(كنيسة القديس يوحنا في باليرمو، صقلية، تصوير: ماغنوس مانسكل)
+ الخط -

تداول الثقافات بين بلدان البحر المتوسط سبق بقرون عديدة تلك النظريات التي تهيمن اليوم في السياسة والأنثروبولوجيا، إذ إن أثره واضح بين الثقافتين العربية والغربية، خصوصاً في منافذها البحرية جنوب المتوسّط.

في إيطاليا كان التأثير العربي جلياً في الكتابات الأدبية والعلمية من خلال ترجمة الشروحات العربية في الفلك والفلسفة والرياضيات إلى اللاتينية. لكن لا يقتصر الأمر على ذلك، إذ أن مؤثرات عربية كثيرة طاولت الأدب الإيطالي خصوصاً في تلك الفترة التي سبقت عصر النهضة وهي مرحلة تشكّل الأدب والشعر الغنائي في إيطاليا.

ليس الأمر صعب التفسير، فالحضور العربي في صقلية كان له أثر بارز، إضافة إلى الاحتكاك المستمر بين التجّار والمماحكات السياسية التي تصنع شكلاً من أشكال الحضور في أذهان النخب.

في محاضرة في "المركز الثقافي الإيطالي" في القاهرة انتظمت مؤخّراً، وُصف التأثير العربي في أصول الأدب الإيطالي بـ"بداية حب"، وهو ما يؤكده المحاضر نفسه، دانيلو مارينو المقيم في مصر، حيث عاد إلى تحليل أثر التقاليد العربية على بدايات الأدب الإيطالي، خصوصاً شعر الحب والغزل لدى المدرسة الصقلية وما يعرف بـ "ستيلنوفو" (الأسلوب الجديد)، مبيّناً تنوّعات ما يطلق عليه بحالة التأثر حين تتخذ أشكالاً من السلس إلى الصلب.

قسّم مارينو التيارات الفنية في إيطاليا بحسب استقبالها للتأثير العربي إلى ثلاثة مستويات، واضعاً علماً أدبياً على رأس كل واحدة منها، فكان دانتي أليجييري الأكثر انفتاحاً على فكرة التأثر، وجيوفاني بوكاتشو الوسطي، وفرانشسكو بتراركا هو الأكثر تعنّتاً وجموداً تجاه استيعاب الثقافة العربية والانفتاح عليها. وهؤلاء يمثلون أهم أسماء الأدب الإيطالي قبل النهضة.

تبدو ملامح التأثر بالثقافة الإسلامية واضحة في أعمال دانتي (1265-1321)، فأشهر وأهم أعماله "الكوميديا الإلهية" تحتوي على مرجعيات وإشارات عربية إسلامية كثيرة، وهي في هيكلتها تبدو محاكاة لحكاية الرحلة عموماً والرحلة إلى الآخرة بشكل أخص، وهو ما يظهر في كتابات مؤلفين عرب في القرن الحادي عشر، مثل: ابن شهيد الأندلسي وأبو العلاء المعرّي، كما يمكن أن يكون استوحاه من الأحاديث النبوية حول رحلة النبي محمد المعروفة باسم "المعراج".

على طرف النقيض، كان موقف الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بتراركا (1304 – 1374)، فقد كان من بين المعارضين لانتشار العلوم والآداب العربية في أوروبا. يقول مارينو "قد بلغ هذا الشعور ذروته في رسالة بتراركا الشهيرة باللاتينية والموجّهة إلى صديقه بادوفا جوفاني، والتي أعلن فيها عن غضبه من النجاح المدوي الذي حققه الكتّاب العرب في إيطاليا وفرنسا، والذين وُضعوا في مكانة كتّاب وفلاسفة لاتينيّين كان بتراركا يقدّسهم".

لم يتوقف تعنّت بتراركا على التأثير الواضح للأدب العربي في بلاده، إذ يتخذ الموقف نفسه تجاه الطب والفلسفة المتأتية من العرب. يضيف مارينو "قام بتراركا بنقد الطب العربي بشدة من خلال ملاحظات ورسائل، وقد كان محتقراً لهذا العلم عند العرب، أما بالنسبة إلى الفلسفة، فيكفينا الإشارة إلى الكلمات المهينة التي قدّم من خلالها ابن رشد بـ "الكلب المسعور الذي تجاسر بعوائه على إيماننا الكاثوليكي".

يشير المحاضر إلى أن موقف بتراركا المناهض لابن رشد لم يكن حالةً فرديةً في القرن الرابع عشر، إذ أن هذا الموقف كان يتبنّاه الكثير من المثقفين والأدباء، إذ كانت لهم ردة فعل قوية ضد "الشروح والإعدادات" اللاتينية الخاصة بكتابات ابن رشد، وبالأخص تلك التي صاغتها مدرسة باريس، أو مدرسة بادوفا".

قد يعكس بتراركا وموقفه غلظة وعدائية تجاه الثقافة العربية، ولكنها لم تكن مبنية على عدم الاطلاع، بل العكس أصحّ إذ يلفت مارينو أنه قرأ ابن رشد في "شرح لكتاب فن الشعر" وفيه تعرّف على شعراء مثل المتنبي والمعرّي كان يصف شعرهم بالرخو والمفرط في العاطفة.

هذه المواقف العدائية لبتراركا لم يرثها تلاميذه، وبالأخص النموذج الثالث الذي اعتمده مارينو في تقسيمه، جيوفاني بوكاتشيو (1313 - 1375). يرى الباحث الإيطالي أن بوكاتشيو "كان ينظر بدافع الفضول للثقافة العربية؛ كما اختبر وباحترام كبير العلوم العربية، وبالأخص الفلاسفة – الأطباء والفلكيين والرياضيين، والذين ظهرت أسمائهم في العديد من نصوصه، وفي كتابات بوكاتشيو باللغتين العامية واللاتينية".

ينتقل المحاضر بعد ذلك إلى رصد تأثرات الشعر الإيطالي بالشعر العربي على شريحة أوسع. اختار هنا الحب كأحد مظاهر ذلك التأثر الذي ساهم في بلورة شكل الشعر الغنائي الإيطالي.

يقارن مارينو بين نصوص شعراء مثل ستيفانو بورتناتور وجياكومو دي لينيتي وتشييلو دالكامو من المدرسة الصقلية والذين عاشوا في القرن الثالث عشر، مع أبيات لشعراء عرب عاشوا في صقلية قرنين أو ثلاثة قرون قبل هؤلاء، فيظهر وجود تطابقات وتشابهات.

حالة التأثر هذه يبدو أنها مرتبطة مثل غيرها من المسائل بالمد والجزر السياسي، فقد اعتبر مارينو القرن الثاني عشر مرحلة ساد فيها احترام الأدب العربي، وهي فترة عرفت حالة من التصالح مع الثقافة العربية بعد مرور وقت كافٍ على خروج العرب من صقلية.

يشير مارينو إلى أنه "عندما وصل النورمان إلى صقلية واستولوا عليها، كان ملوكهم محاطين بزمرة من الشعراء العرب الذين كانوا ينشدون لهم قصائد المدح، فيما بلغ الأدب العربي أوجه خلال حكم فيدريكو الثاني في النصف الأول من القرن الرابع العشر، إذ كان هذا الملك يجيد العربية، وترتب عن ذلك تشجيعه ودعمه نشأة المدرسة الشعرية باللهجة الصقلية، والتي باتت تعرف بـ "المدرسة الصقلية" وكانت تمزج الأشعار اليونانية واللاتينية والبروفانسالية (نسبة إلى بروفنسا جنوب فرنسا) والعربية.

لكن في عام 1266، ومع وفاة مانفريد ابن فريدريك الثاني، ضعُفت قوة أسرة سفيفيا ومعها تلاشت تجربة المدرسة الصقلية". ويضيف الباحث: "في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، ومع انتقال الثقل الثقافي إلى شمال إيطاليا، وبالأخص إلى فلورنسا، دخل الشعر الغنائي مرحلة مراجعة".

بمرور الزمن، كان التأثير العربي يتلاشى شيئاً فشيئاً، حيث واجه الشعر، بشكل خاص، عملية تغيير جذري "مع شعراء تيار الأسلوب الجديد، أصبح الشعر ممارسة أكثر تجريداً حتى تم مزجه بالعلوم والفلسفة"، يقول مارينو.

لكن، من بين هذا التيار كان يوجد شاعر يدعى كافالكانتي قد تأثر تأثراً كبيراً بالفلسفة العربية، حتى أن العديد من النقاد من أمثال برونو ناردي أو ماريا كورتي، يقرؤون له قصيدة "سيدتي من فضلك" فيشبّهونها بنص لابن رشد.


دلالات
المساهمون