توماس بيكيتي في القاهرة..رأس المال نفسه

05 يونيو 2016
(تصوير: فرانك فيرفيل)
+ الخط -

على بعد أمتار قليلة من ميدان التحرير، في مبنى "الجامعة الأميركية" في القاهرة، ناقش الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، الخميس الماضي، أفكاراً ليست ببعيدة عن تلك التي كانت تعلو بها الهُتافات والمطالب في ميدان التحرير خلال "ثورة 25 يناير"، تلك التي تتعلّق بالعدالة الاجتماعية. كان ذلك بمناسبة صدور النسخة العربية من كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" مؤخراً عن "دار التنوير" بترجمة وائل جمال وسلمى حسين.

استغرق إنجاز الكِتاب جهداً بحثياً امتد لعشر سنوات من حياة مؤلّفه (1971)، الذي ظل يصدر كتباً أخرى في هذه الأثناء، وقد عرف العمل نجاحاً كبيراً في المبيعات، إذ بيعت من نسخه مليون ونصف المليون نسخة في عشرين بلدا في العالم بعد ترجمته إلى عدة لغات. كما اعتبر علماء الاقتصاد أن نظريته المتضمنة في الكتاب والمتعلّقة بنظام ضرائب عالمي أحد أهم التجديدات المقترحة، والتي قد تكون فعّالة في نظام توزيع الثروات في القرن الواحد والعشرين.

عمل بيكيتي صاحب "لا مساواة اقتصادية" على أن يكشف حجم الفجوة العالمية في مسألة انعدام العدالة في توزيع الثروة، خصوصاً بعد الثورة الصناعية وما ترتّب عليها من فجوات ظلت تتوسّع حتى لم يعد ممكناً السكوت عليها.بيكيتي في كاريكاتير لـ كريس وير

وخلال الندوة، اعتبر أن كتابه تاريخي بالنسبة للاقتصاديين، واقتصادي بالنسبة للمؤرخين، لما يحمله من جرعة تاريخية مكثفة، ولاستناده على قاعدة بيانات اقتصادية توضّح تباين انعدام العدالة في توزيع الثروة بين الدول المختلفة وارتباطاتها بسياقات سياسية، ليس هذا فقط، بل وظّف الكاتب أعمالاً أدبية لفهم تاريخ الطبقات الاجتماعية في فرنسا وبريطانيا وأميركا في القرن الثامن عشر من بينها أعمال لـ أونوريه دو بلزاك وجين أوستن وهنري جيمس.

وعن كون الكتاب يُناقش في القاهرة، لفت بيكيتي إلى أن مصر من أكثر البلدان التي كان من الصعب رصد معدلات انعدام توزيع الثروة فيها بشكل دقيق، وذلك لصعوبة الاطلاع على البيانات المالية، باعتبار مصر من أقلّ الدول التي يتاح فيها الاطلاع على هذه البيانات، وهو مؤشر سلبي، يؤكد غياب الشفافية بشكل واضح. لكنه أكمل أن المؤشرات التي يمكن رصدها من ظاهر الواقع المصري كتركّز الثروة لدى فئة معينة، ومقاومة رجال الأعمال والشريحة التي تحتكر الثروة للإصلاحات، وما ينجم عن ذلك من إمكانية ثورة جماهيرية، يؤكد بنسب "تقريبية" انعدام العدالة في توزيع الثروة.

ورغم وصف بيكيتي لمنطقة "الشرق الأوسط" بأنها من أكثر المناطق في العالم التي تغيب فيها المساواة في توزيع الثروة، غير أنه ألقى الضوء على صعود معدلات انعدام المساواة في أميركا وعدد من الدول الأوروبية كالسويد وألمانيا، حيث اعتبر أن معدلاتها ارتفعت بشكل كبير لأسباب كثيرة أبرزها العولمة، ما يلفت إلى كون المشاكل الناجمة عن الرأسمالية من انعدام توزيع الثروة مسألة عالمية لا تقتصر على بلدان دون أخرى، وإن كانت تتفاوت في النسب.

اعتبر الخبير الاقتصادي أن خطورة مسألة انعدام توزيع الثروة لا تؤثر فقط على مسألة التفاوت الاجتماعي لدى الشرائح المجتمعية بل تؤثر بشكل كبير على قضايا تلامس عصب الدول كمسألة التعليم، ففي أميركا رصد بيكيتي في بحوثه الاقتصادية مؤشرات تؤكّد أنه كلما زاد دخل الأب كلما تمكّن أبناؤه من تلقّي تعليم جيد ودخول الجامعات والعكس صحيح، واعتبر إنفاق الحكومة المصرية ملياري دولار على التعليم خلال عامين لا يمثّل مساواة في توزيع الثروة بالمقارنة بعدد السكان.

انتقد المحاضر أيضاً دعم بعض الدول الأوروبية للدول "النامية" في الاتجاه الخاطئ، حيث رأى أن هذا الدعم يذهب في اتجاه زيادة معدّلات انعدام المساواة وتضخّم الثروة لدى شريحة الأغنياء بشكل أكبر وهو ما يعد أمراً مناقضاً لمفهوم "الدعم".

ما يحفز عليه الكتاب بشكل كبير هو التأكيد على أن انعدام العدالة في توزيع الثروة ليس أمراً عارضاً في الرأسمالية، وهو ما عرّضه إلى هجوم اليمين الأوروبي والأميركي أكثر من مرة. إلا أن بيكيتي أشار خلال الندوة بأن أسماء بارزة من اليمين في أوروبا بدأت بالاعتراف بأن انعدام توزيع الثروة أزمة حقيقية، على العالم أن يتجاوزها، ولم يعد الأمر مطلباً ينادي به اليسار فقط.

عدّة توصيات حملها بيكيتي خلال محاضرته، منها الالتفات إلى المشاكل المتعلّقة بموضوع الضرائب، أبدى صاحب "تطوّر نظام الإرث" استغرابه من إلغاء الضرائب على المواريث في مصر، وعدم التعامل مع مسألة الضرائب العقارية بطريقة راديكالية واجبة، مستشهداً بالوضع في أوروبا الذي يفرض على الملاّك ضرائب عقارية محدّدة وحازمة، باعتبار العقارات من أصول الدخل الرئيسية في فرنسا على سبيل المثال، كما لفت إلى ضرورة وجود نظام وطني في الضرائب، يقضي بأن يُعلن المواطنون بشفافية عن مدخولاتهم الضريبية مع اعتماد الحكومة قانون حرية المعلومات وتداولها.

سُئل بيكيتي في المحاضرة عن كيفية تطبيق اقتراحاته الضرائبية والمتعلقة بالدخل في الحالة المصرية، فهل يبدأ المواطن بالإعلان عن مدخولاته بشفافية وفي المقابل لا تتعامل المؤسسة الرسمية بتلك الشفافية، بل قد تذهب ضرائب المصريين في طريق تضخيم ثروات أصحاب رأس المال. الخبير الاقتصادي أجاب بأن على المواطن المصري أن يبذل جهده لبناء الثقة في حكومته. لكن هل يمكن للمواطن المصري الثقة بحكومته فعلاً؟

المساهمون