أنا أيضاً اسمي الصالحي

12 يوليو 2015
هاني زعرب/ فلسطين
+ الخط -

يوم الجمعة الماضية كنت أحتسي في هدوء قهوتي الصباحية بإحدى مقاهي الدائرة 13 في باريس حين نزل خبر الاعتداء على معمل للبتروكيماويات في ضاحية مدينة غرونوبل. لم أعر للحدث أي أهمية، ذلك أن أخبار الإرهاب صارت تشعرني بالملل والقرف خاصة في يوم عطلة مشمس.

لكن سرعان ما ذهلت وأنا أرى اسم الإرهابي المشتبه في تنفيذه للاعتداء مكتوباً بالأحرف الكبيرة على شاشة التلفزيون: ياسين الصالحي. في رمشة عين انقلب اليوم الهادئ المشمس إلى كابوس مزعج.

بعد بضع دقائق قليلة تهاطلت على شاشة هاتفي النقال قفشات المعارف والأصدقاء. رسائل قصيرة وتغريدات تتلاعب باسمي العائلي الذي صار فجأة عبئاً ثقيلاً. على الفور فكرت في ابني وما قد يتعرض له من مضايقات وتحرشات بسبب اسم الصالحي.

فكرت أيضاً في المئات من الأشخاص الذين يحملون نفس الاسم في فرنسا. سبق لي وأن قرأت في الصحف الفرنسية مقالات تسرد معاناة الأشخاص الذين يحملون أسماء إرهابيين مثل "كوليبالي" و"كواشي"، لكنني لم أستوعب صراحة عمق إحباطهم ومآسيهم بسبب تشابه أسمائهم العائلية مع أسماء الإرهابيين. كانت غلطة كبيرة.

تذكرتُ مقالة رأي نشرتُها في نفس هذه الصفحة من جريدة "ليبراسيون" في تشرين الأول/أكتوبر عام 2002 تحت عنوان "أوقاتٌ وسخة تنتظر عرب فرنسا" ورغم مرور أعوام كثيرة على نشرها لا تزال المقالة راهنة وكأنها كُتبت هذا اليوم.

وقتها كان الإعلام والرأي العام الفرنسي لا يفسحان المجال سوى لنمطين من العرب: إما شباب الضواحي المنحرفين أو الأصوليين الإسلاميين، وكان من المستحيل لأمثالي أن يجدوا مكاناً ما بين هذين النمطين. آنذاك طرحت هذا السؤال "في أي خانة نضع غالبية المواطنين العرب والمسلمين الفرنسيين الذين يشبهون بقية الفرنسيين في كل شيء إلا في لون البشرة؟. كيف نُصنّف هؤلاء الذين يستهلكون مثل الجميع، ويحتفلون بنهاية الأسبوع ويتملّون بمشاهدة الممثلات الحسناوات في المسلسلات التلفزيونية ولا يعبئون كثيراً بمشهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وهو يقبل مدير مسجد باريس دليل أبو بكر؟".

بقي هذا السؤال بدون إجابة والأنكى أن أحوال هؤلاء الفرنسيين ازدادت سوءاً بعد أن صاروا رهائن صورة نمطية استحوذت عليهم وتجاوزتهم ونالت من كرامتهم وكبريائهم وجعلت بعضهم يمشون في الشوارع منحنين من فرط الحرج.

ربما حان الوقت الآن لتصحيح تلك النظرية العنصرية الشهيرة: "التعويض الكبير" التي يدافع عنها كُتاب مثل رينو كامو وإيريك زمور وعائلة لوبين العنصرية، تلك النظرية التي تدّعي بأن المسلمين سيعوضون قريباً الفرنسيين المسيحيين ويدمرون الهوية القومية الفرنسية.

فصورة الجهادي المجنون المستعد للقتل في أي لحظة عوّضت الآن صورة المهاجر المغربي المسالم الذي كان لا يكاد يهتم لحاله أحد، هو الرجل الصبور الباحث باستمرار عن العمل لسد حاجيات عائلته.

والآن يبدو أننا قطعنا أشواطا طويلة في اتجاه انتاج صورة نمطية تروق كثيراً للسياسيين الفرنسيين، صورة شيطانية تدمج الشاب المنحرف ابن المهاجر بالجهادي الإرهابي المتعطش للدماء وقطع الرؤوس.

لكننا نعرف جيداً، وقسم كبير من الفرنسيين يعرف أيضاً، أن الجهادي الفرنسي الجديد يتكون من 90 في المائة من الإحباط والمشاكل الاجتماعية والنفسية و10 في المائة من الفهم الخاطئ للإسلام. وكلنا أيضاً نرتعب من الكم الهائل للمرشحين للجهاد، أولئك القادرين على البزوغ فجأة من بين ظهرانينا لزرع الرعب في الأحياء والمدن.

ها نحن نتابع اليوم، صاغرين بلا حول ولا قوة، النهاية المأساوية لقصص الحياة الصغيرة التي بنيناها هنا لعقود طوال في بلاد فولتير، بلاد الحرية والمساواة والإخاء، مدفوعين برغبة جارفة في الحب والحياة بعيداً عن الإحباط الخانق الذي كنا نعانيه في بلداننا الاصلية.

ها نحن نتعرض لقصف عشوائي متكرر في مائدة النقاش السياسي الفرنسي وفي برامج التلفزيونات حيث يتحدّث عنا الخبراء والمسؤولون السياسيون مستعملين صوراً نمطية مثيرة للغثيان.

وحتى حين يتحدث بعضهم باسمنا نكتشف أنهم يستعملون كليشيهات لا تقل عفونة. هكذا صرنا نسمع اليوم أن جنسيتنا الفرنسية مجرّد حبر على ورق، وأن أوراق الهوية الفرنسية لا تعكس وطنيتنا ولا تشبثنا بقيم الجمهورية. سمعنا هذا من زعماء سياسيين وأيضاً من أفواه سكارى مترنحين في الشارع عند آخر الليل.

في هذه الأجواء المشحونة بالتوجّس والريبة التي تستحوذ على المواطنين الفرنسيين ذوي البشرة السمراء والأسماء العربية صار من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، أن نحاول "أن نصير مختفين أو غير مرئيين" كما قال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ذات مرة.

وحتى لو غيّرنا أسماءنا فإن جلدنا يشهر بوضوح هويتنا. وفي انتظار حدث إرهابي آخر يزلزل الأرض من تحت أقدامنا أو رياح جديدة تحلق بنا في "سماء واقية" بتعبير الكاتب الأميركي بول باولز سنلزم الصمت ونتدثر بالصبر. إنه شتاء عربي طويل ينتظر المسلمين في أوروبا، وسيكون شتاء حالكاً وطويلاً وشديد القسوة بلا شك.


*مقالة نُشرت قبل أيام في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية وترجمها الكاتب لـ "العربي الجديد"

المساهمون