سعيد بنكراد: نقدنا يجرّب ولا يراكم

28 مارس 2015
+ الخط -

منذ أكثر من ثلاثة عقود، انخرط الباحث المغربي سعيد بنكَراد في تخصص نقدي جديد على برامج التعليم في الكليّات العربية: السيميائيات، بما هي قراءة للرموز والظواهر، ليس في النصوص الأدبية فحسب، بل في المجتمع أيضاً وما يتحرك فيه من إشارات قابلة للقراءة والتأويل.

هكذا، تعاقبت كتبه التي أصبحت مراجع أساسية في مجالها. ولم يتوقف انشغاله عند تحليل الأعمال السردية، بل امتد إلى الإشهار (الإعلان) وقراءة الأنساق الثقافية وتحليل الدستور المغربي الجديد.

منذ أكثر من عشرين سنة، يشرف بنكَراد أيضاً على مجلة "علامات" التي تقرأ الظواهر الثقافية في الأدب وفي المجتمع وفق مناهج نقدية حديثة، وينشر تباعاً مقالات يبدو فيها منشغلاً بكل ما يشغل الناس من تعصّب هوياتي أو ديني وأحداث سياسية ولذّة جنسية وحجاب المرأة وثقافة الاختلاف وغيرها.

إضافة إلى جهده الملحوظ في ترجمة أعمال نقدية وفكرية مهمة، أبرزها "تاريخ الجنون"، لميشيل فوكو، و"العلامة" و"دروس في الأخلاق"، لأمبرتو إيكو.

في ظل تحولات التغيير وربما الفوضى التي تعرفها أجزاء عديدة من المنطقة العربية، يجدر التساؤل عن وظيفة الدرس النقدي اليوم، وإن كانت المناهج النقدية، السيميائيات مثلاً، قادرة على استيعاب وتحليل الظواهر والمعطيات الراهنة، أم أن العلم يقف حائراً حين يتعلّق الأمر بمحاولة قراءة وتحليل الفوضى والعبث.

في هذا الشأن، يرى بنكراد أن الدرس النقدي النظري ما زال كما هو، وكما كان منذ فترة طويلة، مجموعة من المناهج التي تُدرّس للطلبة في الجامعات والمعاهد، بعضها قديم وبعضها يتلمّس طريقه، بكثير من التعثر، نحو حداثة لم تستطع التربة الثقافية المحلية استيعاب كل ممكناتها في التفكير والممارسة على حدٍ سواء.

أما على مستوى متابعة الأعمال الإبداعية - يضيف بنكراد - فإن "الإشكال الرئيسي للنقد، في كامل الفضاء الثقافي العربي، وفي المغرب خصوصاً، يكمن في أنه يجرّب، لكنه لا يراكم. والحال أن المراكمة وحدها يمكن أن تمكّننا من تعميق رؤانا واستنبات ما تنتجه الإنسانية في تربتنا الثقافية. فنحن نجرّب بإلغاء السابق دائماً، والانتصار لبديله من دون الإمساك بأصوله النظرية التي وحدها يمكن أن تكون مادة للاستيراد. فالذين يستوعبون العمق الفلسفي وحدهم قادرون على الإبداع داخل المستورد".

ويتساءل الباحث بهذا الخصوص: "ماذا تركت البنيوية، وما هي آثار الكثير من المناهج التي جُرّبت عندنا؟ قليل منها فقط يتذكره الناس، أما ما تبقّى فلا أحد يلتفت إليه اليوم. في حين أن ما يميّز الفكر الغربي هو أنه يقوم على جدلية التطور، أي الربط الدائم بين المنتج السابق والممكن الآتي".

والخلاصة، حسب بنكراد، هي أن "تلك حال السيميائيات، في تصوّري على الأقل، فهي لم تلغ أي شيء سابق عليها، على العكس من ذلك، لقد استوعبت تراثاً ضخماً وأعادت صياغته ضمن حدودها. فهي تحتفي بأصولها الفلسفية، الفينومينولوجيا في المقام الأول، ولا تتنكّر لمنجزات البنيوية، وتتعامل مع النص باعتباره جزءاً من موسوعة، أي جزءاً من بناء ثقافي عام لا يمكن التعرّف إلى معانيه من دون استحضار مجمل العناصر التي تشكّل ذاكرته القريبة والبعيدة".

وعن قدرة هذا المنهج النقدي في تفكيك الأنساق الثقافية العربية المتشابكة اليوم، يقول بنكراد: "لا يمكن القول إنها كافية وحدها لتناول كل الظواهر. إنها جزئية، كما هي كل الرؤى، فلا يمكن إلغاء تصورات أخرى يمكن الاستعانة بها من أجل معرفة أفضل للظواهر. نحن في واقع الأمر في حاجة إلى الكثير من زوايا النظر لكي نمسك بمنطق الفوضى والعبث".

وفي ما يتعلّق براهن الثقافة العربية في سياق تفاعلها مع الثقافات الأخرى، وإن كان هناك تبادل ثقافي حقيقي بين طرفين قادرين على التأثير في بعضهما بعضاً، يقرأ بنكراد هذا الموضوع بوصفه شائكاً، إذ يتضمن أبعاداً متعددة، منها الديني والسلوكي وإنتاج المعرفة في الوقت ذاته.

ويوضح: "ومع ذلك، يمكن القول إن هناك مفارقة مرعبة تعيشها كل المجتمعات العربية، تتمثّل في التفاوت الكبير بين مظاهر التحديث التي شملت كل شيء في الحياة، وحالات نكوص رهيب نحو الماضي. فبقدر ما تزداد حاجتنا المادية إلى استيراد كل مُنتجات الحضارة المعاصرة، يتعمّق إحساسنا بالرغبة في العودة إلى الماضي. هناك حنين دائم إلى زمنية أولى يجب أن يكون السير إلى الأمام عودة إليها".

يفسر بنكراد رؤيته على النحو التالي: "هذا يتجلى على جميع المستويات، فنحن لا نحتفي في حالات كثيرة بمنتجات الغرب إلا إن كانت تؤكد ماضينا، والشباب الذين خرجوا من الواقع واستعاضوا عنه بحياة افتراضية، يعيشون وفق أحدث الآلات العصرية، لكنهم لا يترددون لحظة واحدة، وحسب الكثير من الإحصائيات، في التصريح بانتمائهم إلى أكثر القيم الإنسانية تخلّفاً".

وعن سبب هذه المفارقة، يقول: "يبدو لي أن الأمر يعود، في جزء منه على الأقل، إلى أن المدنيّة الحديثة داهمتنا ونحن أعجز ما نكون عن استيعاب منتجها القيمي والفكري، قبل استعمال أداتها الحديثة. لذلك، فإننا نتداول أشياءً نحلم بأن تعيدنا إلى الماضي، لا أن تذهب بنا إلى زمنية لا تتوقف، أو على الأقل تعلّمنا كيف ننتمي إليها".

سألناه أيضاً إن كانت الثقافة العربية الآن فعلاً منتجة أم أنها تشكّل ما يشبه استنساخاً واجتراراً لثقافات أخرى طاغية، ولا سيما في ما يتعلق بالآداب والفنون وأساليب العيش، فبدا له أن قضية الاستنساخ نسبية:

"المشكل ليس في الاستيراد ذاته، بل في طريقة استيعابه ضمن ممكنات الثقافة العربية، وأقصد بها اللغة في الأساس. فالذين أنتجوا الكثير من النظريات في التراث العربي لم ينكروا أبداً أنهم استطاعوا القيام بذلك استناداً إلى انفتاحهم على فلسفات عصرهم، ومنها الفلسفة اليونانية، لكنهم أعادوا صياغة هذه النظريات وفق ممكنات التقطيع في لغتهم. وبذلك، فقدت منجزات فكرية كثيرة ذاكرتها الأولى، وأصبحت منتجاً عربياً خالصاً، ("عربية" هنا بالمعنى اللغوي وليس العرقي، فكثير ممّن أغنوا الثقافة العربية كانوا من قوميات أخرى). لذلك، فإن الإنتاجية هنا نسبية، ويكفي أن نوطّن نظريةً ما داخل اللغة العربية، بما يتضمنه ذلك من إنتاج لمفاهيم جديدة داخله، لنكون في واقع الأمر نُسهم في تطوير الثقافة الإنسانية".

يقف بنكراد عند ظاهرة "التعميم" التي تعاني منها الثقافة العربية اليوم، فيشير إلى أننا "ميّالون إلى "الأحكام الكليّة"، و"المواقف العامة"، و"الانتماءات الحضارية" ذات الطابع التاريخي العام، لكننا لا نلتفت إلا في النادر من الحالات إلى "التفاصيل"، بل نستهجن الأبحاث التي تتوقف عند هذه التفاصيل بالذات، والحال أنها هي "الترموميتر" الذي يكشف عن القيم الحقيقية التي يتداولها الناس".

إلى جانب أبحاثه الكثيرة، نقل سعيد بنكراد إلى العربية أعمالاً لكبار الباحثين في علم السيميائيات، منها "الإشهار والصورة، صورة الإشهار" لدافيد فيكتوروف؛ "الإشهار والمجتمع" لبيرنار كاتولا؛ "الصورة، المكونات والتأويل" لغي غوتييه؛ "اعترافات روائي ناشئ" و"آليات الكتابة السردية" و"العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه" و"ست نزهات في غابة السرد" و"التأويل بين السميائيات والتفكيكية" لأمبرتو إيكو.

دلالات
المساهمون