أن ترمي بنفسك من قمّة هوليود

28 اغسطس 2014
غرافيتي في كاليفورنيا (أ.ب)
+ الخط -

فوجئتُ، مثل كثيرين، بنبأ انتحار الكوميدي الشهير روبن ويليامز قبل أسبوعين. وكان أول ما استدعاه هذا الخبر من ذاكرتي مشهدٌ أداه الممثل باقتدار في فيلم "باتش آدمز" (1998)، حيث يقف على حافة جبل شاهق مستعداً للانتحار برمي جسده من الأعلى، لكن فراشة تحط على زهرة بقربه فيتأملها قليلاً، ثم يستعيد شعوره بالأمل ويعود ليكمل حياته بعد أن وضع لها هدفاً نبيلاً، وهو معالجة الناس بالضحك.

كنت أشعر منذ شاهدت ذاك الفيلم قبل سنوات أن ويليامز لم يمثل هذا الدور، بل جسد فيه شيئاً من حياته. فالبطل كان يعاني من أزمة نفسية دخل بها المصحّ العقلي، ثم اكتشف هناك أن لديه موهبة في مساعدة الناس، بل وعلاجهم، كما التقى في المصحّ بعالم نفسي أسرف في الغوص بأعماق العقل والنفس البشرية حتى وقع في هوة الجنون، فتعلم منه درساً ثميناً يتلخّص في النظر إلى ما وراء الظواهر.

يخرج باتش آدمز من المصحة ليدرس الطب، ثم يبدأ شقّ طريقه الخاص في معالجة المرضى عبر إضحاكهم، ويضطر للدخول في صراع طويل مع عميد الكلية ينتهي بالحكم قضائياً لصالحه كي لا يُطرد من الجامعة، ثم يؤسس منظمة عالمية لها فروع كثيرة للعلاج بالكوميديا. وربما يوافقني كثيرون في أن ويليامز حاول بنفسه أن يفعل الشيء ذاته.

كان هو الممثل الوحيد الذي دفعني إلى البحث عن خلفيته الثقافية، وكنت أتوقع أن أجد في سيرته شهادات جامعية عليا في أحد مجالات العلوم الإنسانية. ومع أني لم أعثر لديه سوى على مواهب كوميدية مبكرة، فقد أقنع نقاداً آخرين بالبعد الإنساني لأدائه، سواء في الأدوار الكوميدية أو الدرامية.

وعندما تلقيت نبأ انتحاره المفاجئ، بحثت أيضاً عن خلفيته، مستبعداً في البداية صحة الخبر، ثم متسائلاً بدهشة عن دوافع القرار، فوجدت أكثر التأويلات شيوعاً خشيته من الفشل المهني بعد بلوغه القمة، ووقوعه في أزمة اكتئاب حاد أفضت به إلى الإدمان ثم الانسحاب من الحياة.

قد يبدو ذلك حدثاً مفهوماً في هوليود مهما كان مؤلماً؛ فالتحقيقات التلفزيونية التي توالت طوال أسبوع في أميركا كانت تستعرض حالات اكتئاب مشابهة لدى كوميديين آخرين، لتنتهي تعليقات المذيعين بعبارات للتعاطف من قبيل "إنهم يضحكوننا ليُخفوا عنا ألمهم"، ثم يستديرون إلى الكاميرا لبث تقارير أخرى عن آخر أخبار الموضة وفضائح النجوم.

إنها هوليود التي يصفها الأميركيون بأنها أصعب مكان للنجاح في العالم، فالصعوبة هناك لا تكمن في الصعود إلى القمة فقط بل في البقاء فيها أيضاً، ثم في مواصلة القدرة على الحياة بطريقة طبيعية سواء بالبقاء هناك أو بعد السقوط.

إغواء النجومية في هوليود لا يمكن قياسه بأي تجربة أخرى عرفها التاريخ؛ فالنجم الهوليودي يبلغ اليوم من الشهرة درجة لم يكن ليحلم بها الإسكندر المقدوني ولا هارون الرشيد، كما أن المكائد والمؤامرات التي تحاك في كواليسها لا تقل خبثاً عما كان يخشاه الملوك من دسائس في أروقة القصور.

لم تفلح هوليود بكل بريقها في إسعاد ويليامز، كما لم تنجح ابنته الشابة، التي احتفل بعيد ميلادها قبل انتحاره، في إقناعه بالبقاء حياً من أجلها. وربما فشلت كل المخدرات والمسكرات أيضاً في إنقاذه من آلامه التي قرر الخلاص منها بقرار "جبان".

ما زلت أذكر عبارة آدمز التي قالها وهو يستعد لإلقاء نفسه من قمة الجبل عندما خاطب الله بعبارة تعترض على القدر. لكنه سرعان ما تراجع عنها لتنقذه فراشة، بينما عجزت هوليود عن إنقاذ روبن ويليامز، ليرمي بجسده العجوز عن قمة الشهرة والحياة معاً.

المساهمون