منى الجمل السيالة: تمائم لتونس القلقة

21 ديسمبر 2014
+ الخط -

من أجمل الأعمال التشكيلية التي خلفها الفنان الإسباني فرانشيسكو غويا (1746 – 1828)، في الأعوام الأخيرة من حياته، مجموعة "اللوحات السوداء" التي يبلغ عددها 14 لوحة. وقد ربط مؤرخو الفن والنقاد هذه المجموعة بهلع غويا من الحروب النابليونية وتألمه من آفتي الجنون والصمم.

ولعل لوحته التي تحمل عنوان "نوم العقل" هي الأشد تعبيراً عن ضرورة اليقظة والارتياب من الكراهية والعنف. لوحة تمثّل الظهور المرعب والفجائي للوحوش والحيوانات الكاسرة، بعدما دبّ النوم والخمول في العقل. لكن أي عقل؟ عقل المفكر والفنان الذي يحمي النسيج المجتمعي من التفكك ومن الدخول في دوامة الهلاك أو الاحتراب الدائم.

ضمن هذا التوجّه، يندرج مشروع التشكيلية التونسية منى الجمل السيالة (1973) الذي يتجسّد في معرض للصور الضوئية يحتضنه "رواق صديقة كسكاس" في ضاحية قمرت، في العاصمة التونسية، كما يتجسّد في كتاب يرافق المعرض ويقع في 300 صفحة.

"لا للانقسام" هو عنوان المشروع الذي يدعو صراحةً إلى الحذر من الانعكاسات السلبية للصراع السياسي الذي دار في تونس بعد ثورة 14 يناير، ثم خلال فترة الانتقال الديمقراطي. فكي لا تتحول البلاد إلى مسرح كبير ومفتوح للإقصاء والاغتيالات السياسية، شعرت الفنانة بضرورة أن تطلق صفارة الإنذار للتنبيه إلى ما يحدث، أو ما قد يحدث.

يشتمل المعرض، الذي يحمل عنوان "الصورة المواطِنة"، على 217 صورة بالأسود والأبيض، هي عبارة عن بورتريهات واقعية تحضر أيضاً في الكتاب مصحوبةً بنصوص كتبتها الفنانة، وأخرى ساهم في كتابتها بعض الماثلين في الصور. أما المشروع نفسه فقد انطلق منذ عام 2011 وتمكّن من تغطية معظم الخارطة التونسية، ولا سيما الجهات التي شهدت أحداثاً كبرى من احتجاجات واعتصامات ومواجهات.

اللافت في هذه البورتريهات هو الحضور المكثّف للفنانين والكتّاب والناشطين في المجتمع المدني؛ إذ هناك الناشر والسينمائي والمسرحي والتشكيلي جنباً إلى جنب مع العامل والصيدلي والجزّار وسائر المهن. جل الوجوه تتصدى لتنامي الدعوة إلى الانقسام، بالابتسامة والتطلع إلى الغد بعيون متفائلة أو حالمة. مناورة فنية وإنسانية نبيلة تهدف إلى تدعيم جبهة مَن يقاوم نزعة تدمير الروح المجتمعية. أشخاص من مختلف شرائح المجتمع يقفون صفاً واحداً لدرء الكآبة والبؤس، وطرد القلق ومركبات الخوف.

لا مجال للهروب أو المواربة في لحظة الوقوف أمام البورتريهات. ذلك ما تلح عليه زوايا نظر العدسة. فالشخصيات في مواجهة مباشرة مع مصائرها. ومثلما ينبعث النور من العتمة، تشير تدرجات التعتيم والإضاءة إلى الواقع الإنساني المليء بالتضاد والتنافر. إنها الإقامة في الدوار الأبدي، تكثيف كوني لحركات التمدد والانقباض والشهيق والزفير. ويستلزم هنا فهم الحركة الدائرية للزمن حتى تتناغم وفقاً لها الحالة النفسية للإنسان. وهذا ما حاولت الفنانة نقله من خلال أسلوبية أو "بيداغوجيا المواطنة".

أما متعة الوقوف أمام الكاميرا، الظاهرة في هذه الأعمال، فتحيل إلى سيميائية التباهي بالمشاركة في الحياة والإصرار على الانخراط في غوايتها، بما فيها من إيجابي وسلبي. وفي الوقت ذاته، لا بد من الاشارة إلى أننا إزاء مجال حميمي، شخصي، سرّاني، وإلا بماذا يمكن تفسير رفض بعض الماثلين في الصور أن تُتداول صورهم خارج قبة المعرض وخارج دفتي الكتاب المصاحِب؟ قد يكون ذلك ناتجاً عن الشعور بإمكانية القبول المؤقت والشرطي بما يسميه الفيلسوف والمؤرّخ والشاعر الفارسي مسكويه بـ "التطوّع والاحتياط"، أي أن يتنازل الفرد عن البعض من أجل تحقيق التكامل في المجتمع... الدخول إلى شرنقة الروح مسموح به حينئذ، ولو ظرفياً، لتحقيق نوع من التعايش الأمثل.

تبدو لوحة "زحل يلتهم ابنه" المرعبة، لفرانشيسكو غويا، بمثابة تلميح صريح، سوداوي وجنائزي، للمخاطر الناتجة عن الشك والريبة في الآخر إلى حد التجافي والانقسام والتشظي. ومعرض "لا للانقسام" يتّبع المنهج نفسه، لكن ضمن مسحة تفاؤلية إشراقية غايتها التنبيه إلى كارثية تدمير الإنسان والوطن بتعلة "التضحية بالمواطن" لبناء هيكل سلطة مزعومة على "مسالخ السياسة".

في محاولة لفهم وتفسير العالم التشكيلي للفنانة، تؤكد الناقدة عواطف خضراوي، في المقدمة التي وضعتها لكتاب "لا للانقسام"، أن الفنانة تعمد في أعمالها الصورية، مثلما هو الشأن في تنصيباتها في مجال فن الفيديو، إلى كتابة يومياتها ومذكرات مدينتها باستعمال الكاميرا، وهي في ذلك تتبع مساراً سيكولوجياً معقداً يتعلّق بتداخل "الشخصي" أو "الذاتي" مع الفن.

المساهمون