ملح الأرض: سيرة ضوئية للبؤس

29 أكتوبر 2014
عمال منجم سيرّا بيلادا للذهب (تصوير سلغادو، البرازيل 1986)
+ الخط -

قد يبدو عنوان فيلم فيم فيندرس الأخير، "ملح الأرض"، مبالغاً به إذا ما عرفنا أنه يصوّر تجربة شخص واحد. إذ يصعب، منطقياً، أن تعادل تجربة فردٍ ما، في معناها وأبعادها، الدلالة الكونية والهائلة التي تحملها كلمة "الأرض". غير أن المخرج الألماني (1945)، الذي يوثق في شريطه سيرة وتجربة المصوّر البرازيلي سيباستياو سلغادو (1944)، يقنعنا بعكس ذلك.

يسرد "ملح الأرض" تجربة سلغادو وكأنه يسرد أجزاء من قصة عالمنا الراهن. إذ أن العودة إلى الأعمال والمشاريع التي وضعها المصوّر البرازيلي منذ بدء تجربته في سبعينيات القرن الماضي، تعني، في الآن نفسه، وقفة لدى عدد من الأحداث التي تشكل واقعنا كبشر، وواقع كوكبنا.

ورغم أن المراحل الثلاث التي تشكل تجربة سلغادو مختلفة إلى درجة بعيدة، إلا أنها تصلح جميعاً لتكون طبقات في سردية كاملة عن حال العالم. إذ يصعب، لدى مشاهدة أعماله كما يقترحها علينا فيندرس، عدم التفكير في روابط لا نهائية بين صور المآسي والكوارث والحروب والمجازر التي لاحقها من الكويت إلى إثيوبيا والكونغو ورواندا وغيرها؛ وصور الحياة اليومية لشعوب هامشية وبدائية تقطن غابات أميركا الجنوبية؛ وصور مناطق القطب الشمالي الواسعة وقارسة البرد والخالية إلا من الحيوانات.

لا ترتبط هذه السياقات الثلاث، مختلفة البُنى تماماً، بكونها محكومة بقوانين الأرض من موت وجوع وصراع دام على البقاء فحسب؛ بل وفي كونها سياقات شديدة البؤس والإيلام، استطاع المصور البرازيلي استخلاص صورة مبهرة في جمالها منها.

ولعلّ هذه القدرة الجمالية العالية لدى سلغادو هي التي دفعت صاحب "باريس، تكساس" إلى البحث مطولاً عن المصور البرازيلي بقصد صنع فيلم عنه. بل إن إعجاب فيندرس وثقته بأعمال سلغادو، دفعاه إلى إسناد كثير من أجزاء الفيلم، تصويراً وإدارة، إليه وإلى ابنه، جوليانو ريبيرو سلغادو، الذي وُضع اسمه على الجينيريك إلى جانب اسم فيندرس، كأحد صانعَيْ الفيلم.

يقترح "ملح الأرض" على مشاهده تجربة بصرية مميزة، رغم إيلامها. تجربة بعلامات وتقابلات ومستويات كثيرة، تشترك جميعها لتصدم مشاهدها بالدرجة نفسها التي تبهره فيها. إننا إزاء شريط مضاعف، إذا صحّ التعبير.

شريط داخل شريط. عمل تسعى فيه الكاميرا السينمائية، بطاقتها السردية، إلى قراءة ما أنجزته الكاميرا الفوتوغرافية وإعادة إنتاجه لنقله إلى الشاشة. لكن الأمر لا يتصف بالسهولة، خصوصاً إذا كانت الأحداث التي تتناولها المادة الأولى، الفوتوغرافية، بعيدة زمنياً وجغرافياً، كما هو الحال، عن متناول المادة الثانية.

وما يضيف على الأمر صعوبةً أخرى هي الفردانية العالية لصورة سلغادو، التي حدّدت، إلى درجة بعيدة، مساحات فيم فيندرس الذي قلّما تنقل خارج إطارها، تاركاً السرد البصري/ الشاشة لصور سلغادو، ومتقاسماً السرد الصوتي معه، ومع ابنه.

المساهمون