تشير التقديرات إلى أن يُونُس أَمْرَة عاش في وسط الأناضول بين منتصف القرن الثالث عشر إلى أول رُبع القرن الرابع عشر، أي خلال الفترة بين العامين (1241 - 1321م) حيث بدأت دولة السلاجقة الرُّوم (سلاجقة الأناضول) في التفكك ببطء، وأخذت في التأسيس إمارات تركية كبيرة وصغيرة في مختلف مناطق الأناضول.
بمعنى آخر فيُونس أمرة وُلِد في نفس العام الذي توفّي فيه "الشيخ الأكبر" محيي الدين بن عربي (1165- 1240). على الرغم من أن مكان ميلاده غير معروف، على وجه التحديد، ثمة شبه اتفاق على أنه نشأ في قرية ساري كُويْ التابعة حاليًا لبلدة سيفري حصار لمدينة أسْكِيشَهِير. مع ذلك نظرًا لورود عدد كبير من أسماء الأماكن التي تقع داخل حدود مدينة "قَرَمان"، فقد ظهرت تعليقات تقول إن يونس أمرة عاش داخل حدود هذه المحافظة وربما تُوفّي فيها.
بعد القرن الحادي عشر أثرت اللغة العربية والفارسية، بشكل كبير في اللغة التركية، فبدأ الشعرُ يُنظَّم بتأثير من هاتين اللغتين، شكلاً ومضمونًا، لدرجة أن مولانا جلال الدين الرومي الذي عاش معظم عمره في مدينة قونية قال: "لا يمكن قَرْضُ الشعر باللغة التركية". وكانت اللغة الرسمية للدولة هي الفارسية، وكان الشعراء يقولون الشعر ويدوّنون دواوينهم بالفارسية وينظرون نظرة الاستخفاف والاستهزاء إلى اللغة التركية. لقد ظهر يونس أمرة في مثل هذه الفترة التي أنشد فيها قصائده بلغة تركية بسيطة نقيّة عميقة.
عاش يونس أمرة والشاعر الإيطالي دانتي أليغييري في نفس الوقت تقريبًا. ومن المثير للاهتمام أن الشاعرين لعبا دورًا مماثلاً للغتَيْهما المحلّيتين في منطقتين جغرافيتين مختلفتين، حيث كتَبَ دانتي "الكوميديا الإلهية" بلهجة توسكانا، متحدّيًا اللغةَ السائدة في مجال الأدب، آنذاك، وهي اللاتينية، مما أسفر عن تحوّل لهجة توسكانا إلى اللغة الإيطالية الحالية.
وبشكل مماثل أنشد يونس أمرة قصائده باللغة التركية المحكية في الأناضول، بصورة غير رسمية، الأمر الذي أدَّى إلى تجاهل البيئة الثقافية السائدة آنذاك ليونس أمرة لقرون طويلة من خلال عدم إدراجه في تراجم الشعراء وذلك نتيجة إصرار الشاعر على الكتابة بالتركية، دون الفارسية. لذلك لم يتم اكتشاف مثل هذا الشاعر العظيم إلا في وقت متأخر بعد القرن العشرين، وخاصة مع دراسات قام بها مؤرخ الأدب التركي فؤاد كوبرولو، وعدد من التحقيقات التي أنجزت عنه في وقت لاحق.
ولد في سنة وفاة ابن عربي وكان معاصراً لدانتي
كانت الأناضول تعيش سنواتٍ قَحْط في زمن يونس أمرة. وكان فلاّحو الأناضول في حاجةِ إلى لقمة العيش. وعائلةُ يونس من أولئك الفلاحين الذين يعملون بكدح وشقاء. فإذا لم يَهطُل المطر، فالأرضُ القاحلة لا تُعْطِ محصولاً، ولا يجد الفلاّح ما يُشبع بطنه من قمح. وتقول روايات شعبية متداولة، ثمةَ وليٌّ كبير كان يتردّد اسمُه كثيراً في الأناضول آنذاك، تمتد يدُه المنوّرة إلى الفقير فتفيض البَرَكة أمامَه. وذلك الشخصُ القدير كان هو الحاج بَكْطاش وَلي. عندما يَئِسَ يونس قال لنفسه: "لِأذهبْ أنا أيضاً عنده، لعله يكون وسيلةَ توصُّلِ عائلتي إلى الربيع القادم!" وجمَعَ في الطريق زُعروراً بَرِّيّاً كيَلْا يدخلَ على الحاج بَكْطاش بيدٍ فارغة. بعد سفر دام أياماً وصل إلى منـزله، وقد امتلأ خُرْجه بالزُعرور.
تأثر الحاج بَكْطاش بالشعاعِ المنبعثِ من قلبِ هذا الشابِّ الأسمر الأناضوليّ. لم يُعْطِ يونسَ، قمحاً، فوراً، وماطَلَ قليلاً. هدفُه التمعُّنُ بالنور المنبعث من قلب يونس أكثر. أخيراً عرض عليه الهِمّةَ، أي المساعدةَ على الطريقة الصوفية بدلاً من المؤن، ولكن عائلة يونس جائعة والهِمّة لا تَملأ البطون، فرَفَضَ هذا العرضَ وطلب قمحاً.
أعاد الحاج بَكطاش عَرْضَه ثلاثَ مراتٍ ويونس رفضه. انطلق يونس في طريق قريته بعد أن أخذ القمح. انطلق في الطريق ولكنّ نارَ شكٍّ أكلتْ قلبه، وكان كلّما سار قليلاً شعر بتأجُّج النار في قدميه وقلبه، فأدرك يونس عِبْءَ العرضِ الذي رفضه. فأقفل راجعاً مُكتوِياً بنار النَّدَم، ولكنَّ هذه المرّة من أجل المساعدة. قرع يونس أمرة بابَ الحاج بَكطاش هذه المرّة وقدَّم نفسَه. فقال الحاج بَكطاش: "قُفْلُ يونس ليس لدينا، اِنتقلْ إلى الشيخ طابْدُوك أمْرة" ودَلَّه على بابِ الشيخ طابْدُوك.
انطلق في الطريق فوراً وطرق بابَ الشيخ طابْدُوك دون أن يهدِرَ وقتَه، لِيَغْدُوَ حَطّابَ تلك التكيّة بدايةً. كان حبُّه صافياً وصادقاً إلى درجةِ أنه رفض نقلَ الحَطَب إذا كان مُعوَّجًا إلى بابِ الشيخ طابْدُوك. سيستمر "الدرويش يونس" سنين في موقدِ الطبخ دون أن يُعوِّجَ حَطَبَه أو يعوِّجَ قلبَه. عندما تكامَلَ صدقُه وإخلاصُه وصفاؤه وحُبُّه للإنسان مع حُبّه لِلّهِ الحقّ، تساقطتْ لآلئُ شفّافةٌ عن لسانه، ونظَم عددًا من قصائده الخالدة.
اتبع يونس أمرة عادة الدراويش في نشر أفكارهم الصوفية، حيث سافر إلى مناطق عديدة في الأناضول وخارجها حتى وصل إلى دمشق وأذربيجان. كما أقام فترة في مدينة قونية حيث التقى بمولانا جلال الدين الرومي، ويقول في أحد أبياته:
يقول مولانا: اجلِسْ يا يونس في مكانك هادِئًا
من لا يتحمّلُ مجلسَنا يكون عاشقًا له لاحِقًا
كما اقتبس الشيخ سليمان الكُوسْتانْدِيللي في كتابه "بحر الولاية" ما قاله الرومي عن يونس قائلاً: "أيا كانت المعاني الإلهية التي ذهبتُ إليها، وجدتُ أثَرَ تركمانيٍّ عجوزٍ أمام هذا المعنى".
ترتبط القضايا التي عبّر عنها يونس أمرة والأفكار التي دافع عنها بشكل عام بالتصوّف والفكر الإسلاميين، أي العلاقات المتبادلة بين الإنسان والله، والإنسان والطبيعة، والإنسان وناس آخرين، والإنسان ونفسه. وتأتي في صدارة الثيمات التي تناولها يونس أمرة في قصائده: الله والوجود والموت مما جعله يحظى بقرّاء من جميع الأعمار والأجناس لديهم وجهات نظر وأنماط حياة مختلفة، وينتمون إلى معتقدات وديانات مختلفة.
يتبوّأ يونس أمرة منزلة مرموقة في تاريخِ الأدب التركيّ لأمرين، أولُهما أنه أوّلُ شاعر تركيّ صريحِ النَسَبِ في تركيّته في تلك الفترة من الزمن التي ظهر فيها الشعرُ التركيّ إلى الوجود. أما الوجهُ الثاني أنه شاعر مُنطلِق على سجيّته في الشعر، يقول الشعرَ التركيّ طبْعًا لا تطبُّعًا. ويختلف عن أقرانه من الشعراء الأتراك الذين اتخذوا الشعرَ صناعةً، فامتدحوا العظماءَ، أو ساروا في خُطى شعراءِ الفارسيّة يقلدونهم تقليدًا أعمى.
يجسّد شعره جوهرَ الإنسانية في بُعْدِها الإسلامي - الأناضولي
إنّ شِعرَ يونس أمرة يجسّد جوهرَ الإنسانية في بُعْدِها الإسلامي-الأناضولي. كان أكثرَ رموزِ الأناضولِ تميُّزاً في تصويرِ تعاليمِ الإسلام وصَوْغِ تركيبِ قيَمِ الإسلام من خلال الشعر الشعبيّ الصوفي. كما أنه أولُ شاعر تركيّ يقف في وجه الأفكار الدوغمائية. لقد نادى بكرامة الإنسان واعتبر صورتَه امتداداً لحقيقة الله وحُبِّه قائلاً: "نحن نُحبّ المخلوقَ / من أجلِ حُبِّ الخالقِ". وكان في بحث دائم عن الله بصحبة مختلف الطيور والحيوانات دون التمييز بين أي ديانة في البحث عن الله حيث يقول:
مع الجبال والصخورِ أدعوك يا إلهي
مع الطيورِ وقتَ طلوعِ الفجرٍ أدعوك يا إلهي
كثيرٌ من مفاهيم يونس أمرة الجوهرية مُشْبَعة بالتراث الصُّوفي، مَثَلُهُ مَثَلُ الرومي الذي وظّف التراثَ الفارسيَّ في تعابيرَ ثقافية ولغوية. اختار الرومي الفارسيةَ كوسيلة للتعبير كما فعل كُتّابُ أوروبا ومفكّروها في العصور الوسطى، إذ وضعوا لغاتِهم الوطنيةِ جانباً وفضّلوا اللاتينية، ولكنّ يونس أمرة، كما ذكرنا سابقًا، مِثْلَ دانتي فضّل اللغةَ العامّية الخاصة بقومه، وهي اللغة التركية آنذاك. وبذلك أصبح رمزاً شعبيًا أسطوريًا لأنه تكلّم لغةَ الشعبِ وأعطاه إحساساً بالحُبِّ الإلهي، وأصبحت شهرتُه واسعةَ الانتشارِ حتى إنّ أكثرَ مِن عَشْرِ بلداتٍ في تركيا تَدَّعي أنّ قبرَه موجود فيها.
لا تنبَعُ استمراريةُ يونس أمرة وقوّتُه من لغته فقط، بل من مواضيعه حول المعاني الخالدة ومفاهيمِه واهتماماتِه العالمية. إنه شاعرٌ من زمننا هذا إلى حدٍّ كبير، ليس في تركيا فقط، ولكن في جميع أنحاء العالم. الحبُّ معترَفٌ به عند يونس أمرة كاحتفاءٍ بالحياة. رُفع، في ستينيات وسبعينياتِ القرنِ العشرين، شعار بشكل عجيب، هو "مارسوا الحبَّ وليسَ الحرب". هذه المَقُولة القويّة هي صَدى فكرة عبّر عنها يونس أمرة قبلَ سبعة قرون بالبيت الشعري التالي:
لَمْ أَقْدِمْ إلى هنا للعِراكِ وإنّما من أجْلِ الحُبِّ قَدِمْتُ
القلوبُ بُيوتٌ للحَبيبِ ومن أجل بِنائها أتَيْتُ
قدّم يونس أمرة في عصره، وحتى يومنا هذا، توجيهاً روحياً ومُتعةً جماليةً. فشعرُه مُفعَمٌ بحقائقَ وقيمٍ عالمية، ويعبّر عن شَغَف التواصل مع الطبيعة والتوحّد مع الله. ويعبّر عن الاستمتاع بالحياة في البيت التالي:
هذي الدّنيا عَروسٌ تزيّنتْ بالأحمرِ والأخضرِ
من رآها لا يَشبَعُ من إمعانِ النّظَرِ فيها وبِها يَمكُثُ
نادى بكرامة الإنسان واعتبر صورتَه امتداداً لحقيقة الله
رفض يونس أمرة التعلُّمَ من الكتب إنْ لم يكن فيها علاقةٌ بالإنسانية، لأنه آمن بتقوى الإنسان، وكان يُركّزُ على معرفةِ الذات، وتجَنُّب من العبادة الشكليّة، حيث يقول في إحدى قصائده:
يقول يونُس أيّها الشَّيخُ قد تَحُجُّ ألفَ مرَّةٍ
لكنَّ الأفضلَ أنْ تَلِجَ في القَلبِ المُهَشَّمِ
كان يونس أمرة جزءاً من الإنسانية الكلاسيكية، أو إنسانيةِ النهضة، مثلَ شاعر القرن الرابع عشر "بترارك"، وشاعرِ القرن الخامس عشر "إراسموس"، وتجنَّبَ الدوغمائية التي يفرِضها التعصُّب للتعاليم التقليدية على الإنسان، وحاول أن يَغرِسَ في الإنسان العادي حِسًّا متجددًا بأهمية حياته على الأرض. يَرمُز شعرُ يونس أمرة إلى نَماذج الحياة الفانية الأخلاقية مُصوِّراً قِيَمَ الحياة الخالدة الأسمى. وهو يؤمن بِقُوَّةِ التصوُّف الذي يجعل من الإنسان كائنًا قويًّا من خلالِ حُبِّ الله. وإذا ما رَسَخَ حُبُّ الله عند الدرويشِ، فلا يَهُمُّه الدنيا والآخرة والجنةُ والنار لأنه قَويٌّ بحبِّ الله. إذ يقولُ في إحدى قصائده على غرار الشّيخ الأكبر ابن عربي:
أيّها العاشقونَ أيّها العاشقونَ، العشقُ مَذهبي ودِيني
رَأتْ عَيْنايَ وجهَ الحبيبِ صارَ الحِدادُ عُرسًا لي
إذن ما هي السِّمات المميزة لقصائد يونس أمرة؟ بادئ ذي بدء هناك بساطة مميزة في قصائده وهي ما يسمى بالسّهل الممتنع. لديه مُيول إلى أوزان الشعر المحليّة، استخدم أوزاناً مَقطَعيّةً بسيطة، وعبّر عن عاطفته وحكمة إيمانه بلغة الناس اليومية. ومن فضائلِه الأسلوبيةِ، التعابيرُ النقيّة، والصُّوَر والاستعارات الواضحة، وتجنُّب الإطالة، وقد حذّر بشكل صريح من الثرثرة، واللغة الركيكة.
له أسلوب بارع في نظم القصيدة، لكن هذه البراعة تتميز بالبساطة والتلقائية والصّدق. فهو لا يؤمن بالتشدّق بالكلمات المزخرفة والإسهاب في الكلام. معظم قصائده قصيرة، تتكون غالبًا من سبعة أو ثمانية أبيات شعرية. كما أنّ البيتَ اليُونسي قابل للتقطيع إلى أشطر مزدوجة ورباعية، على حدّ سواء، ما يضفي على الأبيات شعريّة عالية. على الرغم من ذلك فإن الكتابة السائدة لقصائده، هي نظام البيت العربي، وذلك لتأثر النُّسّاخ بالتقليد السائد قديمًا في كتابة الأبيات الشعرية. أمّا أعماله الشعرية، فقد وردت في مناقب تُروى شعبيًا، أنّ فقيهًا يُدعى المُلاّ قاسِم أحرق معظمَ قصائد يونس أمرة، أو ألقى بها في نهر لأنّها في نظره مخالفة للشريعة، لكنه لم يُكمِلْ عمله عندما لفت نظرَه البيتُ التالي:
يا الدرويشُ يونُس لا تَلْتَفَّ وتَدُور في كلامك
سيأتي يومٌ فيه يستجوبُك مَنْ يُدعى المُلاّ قاسِم.
* مقدّمة مختارات من شعر يونس أمرة تصدر في العربية قريباً بترجمة محمد حقّي صوتشين ومراجعة صلاح بوسريف