يُقال إنّ كُلَّ ما نَعرفُهُ قد دُفِن

07 ابريل 2024
تومّاسو دي ديو
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشاعر يصور العالم بتناقضاته، من السوبرماركت إلى الرجل الأعرج، معبرًا عن الألم والعجز، ويعكس شعورًا باليأس من عدم القدرة على التغيير.
- يعبر الكاتب في رسالته إلى كارلو عن الهزيمة والاستسلام لواقع مؤلم، مشيرًا إلى الانغماس في التكنولوجيا وفقدان الاتصال الحقيقي والمعنى في الحياة.
- يقدم الشاعر صورة لشخص يغني تحت الأمطار ملطخًا بالدماء كرمز للأمل والتحدي، موضحًا القدرة على الاستمرار والتوهج في وجه الصعاب، مقدمًا رؤية للحياة الإنسانية كحريق يستمر.

-1-

يجيءُ العالَمُ إليَّ بعينيْنِ راجِفتيْن
يَجيءُ إليَّ مع السّوبرماركت، مع الرَّجل الأعْرج
مع الأسفلتِ والمُتشرّدِ والبار.

يجيءُ العالَمُ إليَّ معَ الأرْضِ والوَحلِ
مع الكلامِ السيِّئ وعدمِ الكلامِ والأغلال.

يَجيءُ العالَمُ إليَّ معَ الدَّرابزين
مع غِطاء مُحرّكِ السيّارة والشّاشَةِ والعَذاب.

لهُ عينانِ حَمْراوانِ ولا يَتكلَّم.

يُقالُ إنَّ كُلَّ ما نَعْرفُهُ لنْ يَنفَع.
يُقالُ إنَّ كُلَّ ما تَعلَّمناهُ لنْ يَكونَ نافِعًا
لا لنا ولا لأيّ أحدٍ يأتي إليْنا يَسْتغيث.

لهُ عَينانِ حَمْراوانِ ولا يَتكلَّم.

يُقالُ إنَّ كلَّ ما نَعرِفهُ قدْ دُفِن.
يُقالُ إنَّ كلَّ ما تعلَّمناهُ قدْ دُفِن.

إنّهُ في مكانٍ ما، في نُقطةٍ ما من الأرْضِ الجَسدِ العالم
إنّهُ فانٍ، لهُ عينانِ حَمْراوانِ ولا يَتكلَّم.
أيْنَ هو؟ أيْنَ هو؟

يَجيءُ العالَمُ إليَّ مع السُّوبرماركِت وغِطاءِ محرِّك السَّيّارة
معَ الأفلامِ الإباحيَّةِ وسخّانِ المِياهِ والعَذابِ والوتساب.

يَجيءُ العالمُ إليَّ ويَسْتَغيث.

له عَينانِ حَمْراوان، ينْظُرُ.

إنّهُ فانٍ. يُحرِّكُ شَفتيْه. لا يَتكلَّم.


-2- 

عزيزي كارلو،

اليومَ كما تَعْرفُ
هُزمَ كفاحنا. وحيْثُ تَجولُ بالبَصر
فهم مُنتَصرون. خَلفَ الوُجوهِ المُستَرْخية،
الّتي سَلبتْها نَشوةٌ دُنيويّةٌ في الشّاشات،
تَسيلُ عقولُهم وتَتَخثَّر
مُستسْلِمةً ومَليئَةً بالبُغض
لا حُضورَ لها، وحيْثُ تكونُ فهيَ بَعيدةٌ
وساهية.

تعْتريك رَغْبةٌ في الرّضُوخ.
تَعْتريكَ رغْبةٌ في الانْسحاب.

أنتَ الجَسَدُ المَيت
لرَجلٍ أو امرَأةٍ، لشَهيد
أُعدم بالرّصاص في تَمّوز أو في أَيْلول
فُتحَتْ عليْه نيرانُ البَنادِق، 
أُخصِي وعُذّب ودُفِنَ حَيًّا
جُمْجمةٌ آلَتْ إلى قَطران أو شاهِدة.

وتودُّ أنْ تُلقي تحيّة الوداعِ، أنْ تنسحبَ أنتَ أيْضًا
أنْ تَزولَ من الذّاكرة
في فَضاءٍ لا وَقْتَ فيه، في أحدِ الجِبال الخادِعة
ذات الخُضرة الحَقيقيَّة
حيْثُ دارَتِ المعارِك والمُقاومة
هناكَ، إذ لا يراكَ أحد، لأنّكَ مثْل ظِلٍّ
مثْل قَطْرة ندى مُتجمِّدة، مثْل بيْتِ عنْكبوت
تَتوارى
في مَنْبتِ فُروعِ الأشْجارِ، بيْن الأغْصانِ، 
وفي حَلَقاتِ لِحاء الشَّجر.

أو تَتَحلَّلُ بِبساطَة
مِثْل جِسْمٍ صَغيرٍ، هذا ما تودُّ
أوْ إشْعاعٍ يَكادُ يَخْبو
أوْ أنْ تَخْتَفي الإشارَة، أو تَعودَ إلى الصِّفر:
مِثْل بَطّاريّةٍ نافدةِ الشَّحنِ، مُطْفًأ تَمْضي
في أدْنى إشارة
نَحْو النّزر القليل أو اللّاشيء
المرْئيّ وغيْر المَرئيّ
مِنْ ريحٍ بعْدَ أنْ مرَّتِ العاصِفة.

تُغادرُ وتَترُكني ههنا

أصْفعُ رأسي على هذهِ الصَّفحة
من الضّوء الرَّقميّ
أدنو بعينيَّ إلى كاميرا الشَّاشةِ
أو أتكَلَّمُ وَحدي
مع وَحدةِ الإسمنْت
لِكي أُصدّقَ أنَّ صَمتَ التّيّار الكهربائيّ
وأزيز "البايتْ" اللامُتناهِية حَقيقيٌّ أكثَر.

وكيْف لنا ألّا نُصدِّق، معَ ذَلِكَ
كيْفَ لنا ألّا نُصدِّق
أنَّ النِّسيانَ قوَّة، تصوَّر، لا بَلْ هو الأَساس
كيْفَ لنا ألّا نُصدِّق أنَّ المهْزومين
لا يَعودون إلى الواقِع
مِثْل قضْبان في جَسدِ النَّصر الحَيّ
تُشوِّه ذلك الجَسَد
حتّى تَجعلَهُ يَكْبرُ، غيْر جاحِدٍ، رُبما، منذُ الأَزل
فضْلَ تلكَ المناخيسِ البارِزة.

كبيرًا كان فضْلها، بقدرِ ما كانَتِ المَناخيسُ
تجهلُ وجودَها.

لقدْ رأيْتُ، اليوْمَ،
دَكاكينَ الصِّينيّين مفْتوحةً
والمَطاعِمَ والبارات،
تبيعُ المَشْروبات، والأطْعمة.

رأيْتُ الصِّبيةَ 
يَجُولونَ شِبه عُراةٍ في هذا النَّهارِ الحارّ
النَّهارُ الرَّبيعيّ، نَهارُ الشَّيِّ
والباربكيو والوتساب.

رأيْتُ الحَياةَ
الحَياة في كلِّ مَكان
لمْ تَكنْ قريبةً كما الآن
إلى عَدَمِها، حتّى تَكاد تَعْبُرُ الشَّقَّ غيْر المَرئيِّ الّذي يَفصِلها عنْك
عنْكَ أيُّها الجَسدُ الصَّغير
المَيتُ لرَجلٍ أو امرَأةٍ، لشَهيد
أُعدم بالرّصاص في تَمّوز أو في أَيْلول
فُتحَتْ عليْه نيرانُ البَنادِق، 
أُخصي وعُذّب ودُفِنَ حَيًّا.

لكنَّهُ، ربَّما، لمْ يَزلْ حيًّا
في هذا الغُبارِ المُبْهمِ الّذي يَطوفُ 
مُحمَّلًا بالضِّيقِ والرَّغْبة

غُبار البُذورِ هذا، والعَرقِ والبَوْغِ والغازات
هذا الغُبار الإشعاعيّ
المُمغْنط
من الشَّبكاتِ اللّاسِلكيّة، ولكن
لمْ يُنشرْ قطّ على "إنستغرام"
ولا هو مرئيٌّ ولا غير مرئيّ

وبِبطءٍ
قوّةٌ عمياءُ ووحْشيَّة، بليدةٌ وحمْقاء
شيءٌ ما
يُسلِّحُ نفسي ضدَّ نفسي
والصَّوتُ ضدَّ كلِّ صوت، ضدَّ كلِّ وَجهٍ
الوَجهُ
الّذي يرغَبُ
في أنْ يفْقِدَ أيَّ ملمَحٍ ويتحرَّر
مرّةً أُخرى
ليُصبحَ أكثَرَ خفَّة وأكثرَ حُرِّيَّة، ليُصبحَ اعتياديًّا أكثر
ليُصبحَ شكْلًا كبيرًا غير مُلائمٍ للحبِّ، لا اسْمَ له

أمّا الآن، فنعم
ما زالَ غُبارَ جُمْجمة
قطْرانَ أو شاهِدة

ما زالَ اسْمًا، موضةً وملكيَّةً
ولكنْ، ربّما، عليكَ أنْ تجلِسَ الآن
في هذهِ الأبيات
أنْ تَستَمع

ادنُ منّي أيُّها الجَسدُ المَيت
لرجُلٍ أو امْرأة
أُعدم بالرّصاص في تَمّوز أو في أَيْلول

ثمّة ما ينْمو
إنّهُ صَغيرٌ
إنّهُ أحْمقٌ ولا يعرِف

ولكنْ في الصّمتِ، هذا الصَّمت هو
أزيزُكَ المُحتَمل
الّذي لا يُمكن كَبْحُه.


- 3-

أيّ شيءٍ كان. وأيّ شَخصٍ كان. هذا الرَّجلُ
مُلطَّخٌ بالدِّماء. ويُغنّي.
لا يَفعلُ شيْئًا، سوى الوُقوف
تحْتَ قوْسٍ من الآجُرِّ، تحْتَ أمْطار كانون الأوّل
ثمّةَ يدٌ فوقَ رأسهِ، يقفُ وفوْقَ
رأسهِ يدٌ. مُلطَّخٌ بالدِّماء. 
لا يَفعَلُ شيْئًا، يُغنِّي
تحْتَ غيْمةٍ تَتبدَّدُ، تحْتَ سماءٍ تَبدو
كالرَّصاص وكالزِّبل.

لا سَقْفَ يأويه. كأنّهُ أورفيوس. إنّهُ مُهاجِر
رائِدُ أعمالٍ. مُسلِم. يأكُلُ الخِنزير.
إنّهُ مسيحيٌّ. إنَّهُ يَهوديّ
مُسمَّرٌ على الصَّليب ملعونٌ موظَّفٌ
في البَريدِ أو في البَلديَّة أو في بار
يَقودُ الحافِلة، يَمشي في الشّارِع. تراهُ يَنام أحيانًا 
يُخرْبشُ على الرِّمال. يَقْتُلُ ويُقتَل. إنّه رجلٌ
ولا يُمْكنُ الوُصول إليْه.

ويَصِلُ إليَّ، 
لا كما الصَّوت، لا كما الصُّورة
ويَصِلُ إليَّ
لا كما الخاطِرة، لا كما الفِكْرة. لا في كيْنونة ولا
في نَفي ولا في إثْبات ولا في شَكّ.

إنَّهُ مُلطَّخٌ بالدِّماء، يُغنِّي
لا يَفعَلُ شيْئًا، يَقفُ
ويَدهُ فوْقَ رأسِه، ويَدٌ فوْقَ رأسِه.
بيْنما كَبِدهُ، بيْنما قلْبهُ
بيْنما رئتهُ، بيْنما النُّجوم، 
بيْنما ما في داخِلهِ من كلِّ حِراكٍ 
ينْبِشُ، يتَّسِعُ، ويبْعَثُ
ضياءَه المُمكِن لحياةٍ إنْسانيَّةٍ ولاإنْسانيَّة، ها هو
يتوَهَّجُ. إنَّهُ حَريق.
لِننْظُرْ إليْه. لنَتأَمَّله.
لِنكُنْه. 


* ترجمة عن الإيطالية: كاصد محمد



بطاقة

Tommaso Di Dio شاعر إيطالي من مواليد 1982 في ميلانو، حيث يعيش ويعمل. من مجموعاته الشعرية: "نحو النجوم الجليدية" (2020)، و"تسعُ شَفرات لازوردية تلمعُ عبر الزمن" (2022)، و"أردوري" (2023). ترجم إلى الإيطالية مجموعة "الربيع وكلّ شيء" (2020) للشاعر الأميركي ويليام كارلوس ويليامز، وهو يعمل حالياً على مجموعة مختارة من قصائد ديلان توماس. أصدر حديثاً "مختارات من الشعر الإيطالي المعاصر" (2023).

 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون