ذكرٌ أوروبي أبيض. اللعنة التي زلزلت القصور الرملية للنقد الثقافي والصوابية السياسية والهجنة الثقافية وأضرابها من النظريات التي خنقت الفن منذ عقود. جائزة نوبل كعادتها، ذهبت إلى الغرب. لعلّ هذه الصورة بسيطةٌ ومريحة، بيد أنّها خادعة هذه المرّة. يون فوسه ذكر أوروبي أبيض بلا شك، ولكنه يستحق الجائزة التي غرقت في شطط التخبُّط منذ عقدين تقريبًا، باستثناءات نادرة: ماريو بارغاس يوسا، أليس مونرو لو كان العالم عادلًا كي تنال حضورًا يليق بها، وسنجد أنصارًا لـ أورهان باموق، وثلّة مخلصة ليلفريده يلينك أو هارولد بنتر.
نعم، تاهت الجائزة عن نغوغي وا ثيونغو، وسلمان رشدي، وآن كارسن وربما توماس بنشون الذين لن ينالوها على الأغلب، ولعلّها ستتوه عن تسان شييه، وكو أون، ولاسلو كراسناهوركاي، وأدونيس، لو كانت المراهنات تصحّ في دوامة الأكاديمية السويدية التي لا يعرف أحد معاييرها. ولكنّها أصابت هذه المرّة حين نالها يون فوسه، فحتى الساعة الخاطئة تصيب الوقت مرّتَين.
"من هو فوسه؟ لم نسمع به"، وعبارات أُخرى تناثرت في حفلات لطم "أُمّة اقرأ". لن نستعين بأميركا وقوائم "البست سيلر" التي تُصدّرها لنا، إذ لعلّهم كانوا سيفضّلون ثرثرة كارل أوفه كناوسغورد. فوسه ليس مغمورًا أو نكرة، وإن كانت شهرته لم تصل إلينا. شهرته محصورة في البلاد الاسكندنافية قبل أن تتغيّر الصورة شيئًا فشيئًا حين تنبّهت له دور النشر المُغامِرة في بريطانيا وأميركا. ولكن حتى هذه الشهرة كانت لأسباب خاطئة، أو مخاتلة لو شئنا الدقّة، إذ قُدِّم بوصفه السارد لا المسرحي، والراجح أنّ تلك الشهرة كانت ستتأخّر طويلًا لو لم يهجر المسرح ويتفرّغ للرواية، قبل أن يعود إلى المسرح بشروط جديدة هذه المرّة.
ليس مغموراً أو نكرة، وإن كانت شهرته لم تصل إلينا
ثمّة بوصلة أُخرى أقرب إلينا لو كنا نودّ اللحاق بركب الأدب العالمي حقًّا؛ لا قوائم المراهنات الأميركية ولا حتى الأوروبية، بل "جيراننا" الفُرس الذين تَرجموا أعماله المسرحية منذ عشرين عامًا، ولم يُباغَتوا مثلنا، إذ هُم يتابعون ولا نتابع، يقرؤون ولا نقرأ، يترجمون ولا نترجم. ولكن هذا حديثٌ ذو شجون يستحقّ وقفات أُخرى.
ما كان استحقار فوسه مقتصرًا على "القارئ العادي" عربيًا، إذ ثمّة كتّاب ومحرّرون وناشرون نفضوه عن "كيبورداتهم" وكأنّه الغبار. ينبغي أن نحمد الله أنّ فوسه لم يكن عربيًا، و"تجرّأ" على تقديم مخطوطة لهذه الدار أو تلك. "كاتب مملّ"، "كاتب بارد"، "لغته لغة أقلّية". ربما كان باردًا لو قارنّاه بلهاث معظم الروايات العربية التي تقدّس "الحدث" و"الحبكة" و"القضايا الكبرى"، ولكنّه ليس مملّاً إلّا لأصحاب النّفَس القصير، ولا يضيره أنّ لغته تقتصر على نصف مليون ناطق، فاللغات – كما يُذكّرنا وا ثيونغو بعبقريته العظيمة – آلاتٌ موسيقية لا معنى لتقديم آلة كبيرة على صغيرة أو حذف آلة من الوجود لأنّها لا تصلح لعزف منفرد.
هل كانوا سيهاجمون وا ثيونغو ولغته الغيكويو التي ينطق بها أقلُّ من سبعة ملايين، أم أنّ حساب الحقل الكيني لا يصلح للبيدر النرويجي؟ لا نجرؤ على قول إنّنا لم (ولن؟) نقرأ ما يكفي بل نطوّح بآرائنا التعميمية شرقًا وغربًا في جهاد الكيبورد ضدّ ما نجهل، فكلُّ ما نجهل غير موجود، ولا يستحقّ، فنحن أهل القلم وأهل الشعر وأهل الكتابة، ونون والقلم، واقرأ، ونحن تُرجِمنا أيضًا وحضرنا مؤتمرات وحفلات توقيع ونلنا جوائز وحصدنا مئات اللايكات. ولكن هذا، مرّةً أُخرى، حديثٌ له مقام آخر، ولنعُد إلى فوسه ونوبله.
هجر المسرح وتفرّغ للرواية قبل أن يعود إلى المسرح
مُعظم صور فوسه بالأبيض والأسود، مثل لغته، مثل أدبه، متقشّف، شاعري، حميمي، موجع، يبرق شعره ولحيته وعيناه الزرقاوان بوصفه سليل الفايكنغ الذين سيفتحون أوروبا من بوّابة الأدب هذه المرّة، الأدب المختلف، الأدب المغاير، أدب نقاء اللغة، وموسيقى الكلمات، وإيقاع التكرار، والتأمّلات الفلسفية، ولحظات الصمت المُربِكة الموحِشة المُغوِية في آن. سمّوه "إبسن الجديد"، غير أنه مختلف بقدر ما هو الخلف لذلك السلف. إبسن مرعب أكثر مثل وحش ميثولوجي يطوّح ولا يرحم، ولكنّ فوسه أهدأ من دون أن يعني هدوؤه تردّدًا، إذ ينهمر مثل شلّال (وهو معنى اسمه بالنرويجية)، ويحفر الجسد والنفس والروح واللغة مثل نصل. لعلّنا نقارنه بالنمساوي توماس برنهارد، ولكن ظلمة برنهارد أقسى، وصقيعه أبرد، والشيخ أحكم من هذا الفتى الاسكندنافي، ولكن العالم هو العالم. عالم الصقيع والنوافذ والقوارب الوحيدة كأصحابها، عالم القرى الصغيرة المعزولة كسكّانها، عالم الأبيض والأسود والأسى والفقدان واللوعة والهمس، مثل النمساوي الآخر روبرت زيتالر، أو النسخة اللبنانية الأدفأ لدى رينيه الحايك.
سمّى فوسه سرده "نثرًا بطيئًا"، غير أنّنا نتيمّن دومًا بحكمة د. هـ. لورنس في أن نثق بالحكاية لا بالحكّاء. ليس بطئًا بقدر ما هو وقع خطى هادئة، وهمس مرتعش، وصمت مرسوم ببراعة لا يضاهيه فيها إلّا الإنكليزي هنري غرين ربما، وإن كان الإنكليزي ينزلق إلى سخرية أكبر؛ أو ربما إبراهيم أصلان، وإن كان أصلان أدفأ وأحنّ رغم قسوة تقشّف سرده. وليست النتيجة "تصالحًا" أو "سلامًا" كما يدّعي فوسه، فالحكاية - مرّة أُخرى – أصدق من حكّائها الذي يحاول إسباغ كاثوليكيته المتأخّرة على كلّ ما قبلها. ليس ثمّة تصالح أو سلام في أدب يوسه، بل أسى يحفر الروح والقلب. ثمّة ماضٍ لا يمضي، وتكرار للمصائر، سواء كان هذا في نوفيلا "ها هي أليس" (أو "أليس عند النار" كما فضّل مترجمه الأميركي داميون سيرلز)، أو في الأعمال الأضخم كما في "ميلانخوليا" أو "سباعية". تكرار لمصائر الشخصيات التي تبدو مثل هامستر يدور في دولاب لا يتوقّف، غير أن هذا الدولاب أقرب إلى "سمسارا" (دائرة الكارما) التي لا تنتهي بالنيرفانا ولا بالسلام أو الصفاء، بل تبقى في جحيم تقمُّص و"دوكا" (المعاناة) من دون خلاص.
ليست الحياة المعيشة ما يُغري فوسه، بل تلك اللامعيشة، أو "ما لا يُقال"، كما لخّص لنا سكرتير الأكاديمية السويدية. تلك الحياة التي تُشبه حيوات شخصيات تشيخوف التي تُبطِن أكثر مما تُظهِر، وتنوس بلا انقطاع بين ثنائية إيروس وثناتوس، حيث الحُبّ والموت، حيث الجنس والصمت، حيث الجسد والخواء، حيث ذاكرة الأصابع والحواس، حيث لا تكون العين مركز العالم، بل الأذن التي تضجّ بحشود الأصوات المتضاربة كأمواج من الماضي والحاضر والمستقبل، في زمن أوحد يبقى هو هو، رغم تباين اللاعبين في تلك الرقعة الشطرنجية الباردة ومربّعاتها الصقيعية.
ليس ثمّة تصالح أو سلام في أدبه، بل أسى يحفر الروح والقلب
ليست قضايا كبرى كما يودّها كتّابنا وقرّاؤنا، وهي القضايا الكبرى في آن. ذلك الإيقاع البطيء الغارق في سكينة دائمة ومشاهد متكرّرة عن القوارب والبيوت والعزلة والماء، وحيث الشخصيات تُدمن الوقوف عند الشبابيك، وكأنّ العالم لا يُرى ولا يُدرَك إلّا عبر حاجز زجاجي. سكينةٌ مخاتِلة، وصمت مرعب لأنّنا نترقّب انكساره حتمًا، نغرق في قلق أنّ أمرًا ما سيحدث وسيُحطّم الصمت لتبدأ الدراما الموجعة التي تجعلنا نباغت أنفسنا بالأسئلة: "ما الذي يجمع شخصين؟"، "أو ما معنى الحُبّ؟"، أو "لمَ نُدمن تأمُّل ذلك الماء الساكن؟".
تلك هي قضايا فوسه الكبرى، حيث الدراما تنبع من اقتحام عنصر ثالث للصورة التي تجمع عنصرين هادئين، ربما الغيرة، أو جراح الماضي، أو أسى الحاضر، أو لعنة مستقبل غامض. القضية الكبرى للفنّ لدى فوسه هي الفنّ في ذاته، هي "القراءة المعمّقة" كما يصف الترجمة، وكما يصلح عنوانًا لأدبه، أو لعلّه الفقدان. فقدان ما لا نعرف، بيد أنه يجرحنا ويوجعنا ويذكّرنا بالنقصان.
* كاتب ومترجم من سورية