اقتصرت معرفة قُرَّاء العربية لأدب الفائز بجائزة نوبل للأدب لهذا العام؛ المسرحي والشاعر والروائي النرويجي يون فوسه (1959) على الرواية. ولو أنَّه تُوّج عن إبداعاته المسرحية بحسب إعلان الأكاديمية السويدية. وقد عرفه القارئ العربي بروايتَي "صباح ومساء" (2019) و"ثلاثية" (2023) الصادرتَين عن "دار الكرمة" المصرية بترجمة مباشرة عن النرويجية، وبتوقيع شيرين عبد الوهاب وأمل روَّاش.
وكما جاء في بيان الأكاديمية السويدية عن أسباب منح فوسه الجائزة، يُعطي نثره صوتاً لما لا يمكن قوله، وهذا اختزالٌ دقيق لمقولة الروايتَين؛ فالرواية الأولى "صباح ومساء" تدور في ساعاتٍ تلَت الموت. بموت يوهانس، يأتي صديقُه بيتر من عالَم الموتى، ويأخذه في جولة في قارب الصيد، كي يساعده على أن يُفطَمَ من الحياة. خلال الساعات التي تسردها الحكاية لعجوز على وشك أن يخرج من العالَم الذي نعيش فيه، يكتب فوسه نصّاً يحتفي بما هو إنساني وحميم في تجربة يوهانس.
شخوصٌ حائرة وغالباً ما تُقاسي موضوعاً أكبر منها
وكلاهما، بيتر ويوهانس، يُكرّران ضرورة أن يَحلق كلُّ منهما للآخر لحيته، قبل أن يتأكَّد لنا أنّهما ميتان. وكلاهما يكرّران ضرورة أن يوصلا صيدهما إلى المرفأ، كي لا يخذلا سيّدة تنتظرهما. فوسه يبني نصّه من فكرة غير معقولة. لكن في بنائه وتفاصيله، بدا النصُّ روايةً عن الصداقة؛ إذ عاد بيتر، كي يأخذ يوهانس بيده إلى العالَم الذي تنقطع فيه الكلمات. وكأنَّما صديقه، استلف من ملاك الموت فرصةً كي يتيح لصديقه العجوز أن يقول وداعاً لتلك العادات التي أسَّست حياته، وأن يقول وداعاً لزوجته ولابنته. رحلةٌ جعلت انسحابه من حياة الآخرين أشبهَ بالتلويح المليء بالمعاني التي تثري العيش نفسه، وهي رحلة تشبه العناق، تشبه الوداع.
أيضاً في روايته "ثلاثية"، وباستخدام شخصيّتَين، هُما أسلا وأليدا، يصنع فوسه حكاية حُبّ مغدور وضائع. وعدا عن مقولات الرواية التي تُوجَز في موضوع واحد، هو الحب، طبيعته، إشراقاته، ومبعث آلامه. فإنّ ما يميّز الرواية بناؤها الذي ينقسم إلى ثلاث قصص تنسج حكاية واحدة. والأسلوب الذي يتحدّث فيه أسلا وأليدا، وكأنَّهما غافلان، وكأنَّهما يجهلان بالفعل طبيعة ما جمع بينهما، وهو بالضبط ما جعل فراقهما محتوماً. وكأنَّهما يحاولان التقاط أمرٍ يتعذّر التقاطه، وهو شقاق الحبّ.
في الروايتين اللتين نعرفهما بالعربية، للروائي النرويجي الذي استقبل إعلان فوزه استقبالاً يعيد للجائزة بعضاً من ألقها النقدي، نجد الأسلوب نفسه؛ إذ يبني فوسه حكاياته بالاعتماد على شخصيات غير مدركة، ليست بجنون شخصية الروائي الأميركي وليم فوكنر (1897 - 1962) في روايته "الصخب والعنف"، وليست بعطالة شخصيات المسرحي الأيرلندي صموئيل بيكت (1906 - 1989) في مسرحيته "في انتظار غودو"، وإنَّما نراها شخصيات لديها ما تقوله؛ بل لديها قول متّسق ومتكامل. إلّا أنَّ فوسه يُظهره قولاً متقطعاً، قولاً يحتاج إلى تركيب، قولًا يحتاج إلى مؤازرة القارئ، قولاً كي يبدو مفهوماً يحتاج أن يُقرأ باعتباره جزءاً من صلب الموضوع الذي تدور الرواية عنه.
الاحتضار، بالنسبة إلى يوهانس، أو مشارَفة الموت، جعل الزمن في "صباح ومساء" - الصباح هو الولادة والمساء هو الموت - منفلتاً بين اللحظتين الكبيرتين؛ إذ تجري الحياة دفعة واحدة؛ يوهانس أَحبّ وتزوَّج وأنجب وعمل صيّاداً، وتعاطى مع تفاصيل انتهت، مع تفاصيل أَخذت تنسلُّ من يديه ومن أمام عينيه. أيضاً، في "ثلاثية"، يظهر الحُبّ الذي يريد الحصول على اعتراف اجتماعي بالزواج، لكنّ الهروب بسبب جريمة القتل يعيق الشخصيات عن فهم مسار حياتها، وعن فهم طبيعة ما يُسبّب عذابها. إذ نراها شخصيات تحاول أن تحكي وتحكي، مع اضطراب عدم الفهم، مع اضطراب محاولة الفهم. وربما امتياز فوسه، في أمانته لخطاب شخوصه الحائرة التي غالباً ما تُقاسي موضوعاً أكبر منها؛ الموت لدى العجائز، والحُبّ لدى الفتيان.
بقي أنَّ يُشجّع فوز الروائي النرويجي عن أعماله المسرحية، الناشرين في الثقافة العربية على إيلاء هذه الفنون حظوتها من الترجمة؛ فالفنون، ليست على شقاق في أشكالها الأدبية. وأمام روايات يون فوسه الشاعر والمسرحي، يجد القارئ تلك التركيبة الذي تجمع عمق الشعر وحساسيته، مع انفعالات المسرح وانتقالات شخوصه. الرواية التي يكتبها نسيجٌ من فنون شتَّى.
(روائي من سورية)