في عام 2016، قدّم أنسيلم كيفر معرضه "والهالا" الذي يحمل اسم أسطورة إسكندنافية لطالما استعادتها الحركات النازية الجديدة في أوروبا كتعويذة لموتهم في معركة "نهائية" دفاعاً عن الإله أودين، وأيّ سلامٍ هو مؤقّت وعابر في نهاية المطاف، ليعكس تشاؤمه حيال الصراع الذي يعيشه البشر اليوم. ثم أقام الفنان الألماني معرضاً عام 2019، عاد فيه إلى الميثولوجيا الإسكندنافية أيضاً، ليؤكّد أنّ العالم يسير نحو نقطة التلاشي، ويأتي معرضه "يقظة فينيغن" جزءاً ثالثاً من مشروع بصري يعيد قراءة تاريخ أوروبا التي تعرف اليوم حرباً جديدة في أوكرانيا.
المعرض الثالث افتُتح أمس الأربعاء، كما سابقَيه، في "غاليري وايت كيوب" اللندني، ويتواصل حتى العشرين من آب/ أغسطس المقبل، بمفردات مشتركة مثل شواهد القبور والأسلاك الشائكة في مساحات شاسعة مكسوّة بالطين أو الأخاديد أو الفؤوس، وغيرها من علامات الخَراب.
وحات ومنحوتات وأعمال تركيبية يجمعها عنوان رواية جيمس جويس "يقظة فينيغن" التي صدرت عام 1939، واستغرق في كتابتها تسع عشرة سنة، ليكتب قصة غرائبية عن أرملةٍ تضع جسد زوجها كوجبة للنادبين يوم جنازته، لكنه يصحو ليلاً ويختفي قبل أن يتمكّنوا من أكله.
تعبّر الأعمال المعروضة عن دورة مستمرّة من الموت والانبعاث
ذلك الميّت الذي يبقى متيقّظاً هي الثيمة الأساسية للمعرض، ما تشير إليه الاقتباسات التي انتقاها أنسيلم كيفر من الرواية، وثبّتها بخطّ يده على مختلف التركيبات المعروضة، في محاولةٍ لإحياء كتابات جويس التي تحيِّر قارئها حول طبيعة تسلسلها، وكأنها تتحدّث حول عالم لا بداية أو نهاية لظواهره الاجتماعية والسياسية والطبيعية، إنما هو تعبيرٌ عن دورة مستمرّة من الموت والتجديد؛ الموضوعات التي سادت أعمال الفنان منذ فترة طويلة.
وفي هذه اليقظة، لا يوجد بشر يتحرّكون أو يقفون أو يفعلون شيئاً يُشير إلى وجودهم، هم مختفون من المشهد تماماً، لكنّهم يحملون المسؤولية الكاملة عن مصير العالم، وصنع مآسيهم التي يضطرون للعيش بعدها زمناً مديداً من أجل نسيانها.
لا يستعين كيفر هذه المرّة بالأسطورة، إنما برواية تتابع أحداثها بشكل فانتازي ومرهق بالنسبة للقرّاء والنقّاد على حدّ سواء، لكن الأهمّ من ذلك يتمثّل بذلك القلق الذي يُحاصر الإنسان ليلاً بين أحلام وهواجس وتعبيرات مختلفة عن لاوعيه خلال نومه، وهي تحاكي المناطق البرزخية بين الحياة والموت التي طالما اشتغل عليها الفنّان، في مساحات لا يملؤها سوى الرصاص والطين والرماد، مع تحذيرات لزوّار معرضه من السموم والأضرار التي قد تلحق بهم في حال لمسها.
كما يستخدم موادّ أُخرى من حجارة ومعادن وأسلاك وزجاج ونباتات وقصاصات ورق وغيرها، تذكّر بالأنقاض التي وقف عليها طفلاً خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن تعرّضت بلاده لهزيمة ساحقة في سعي دائم لمناقشة العبث المرتبط بموضوعات الهوية الوطنية، وعبء التاريخ والماضي.
حالة من عدم الاستقرار الدائم، والدوران اللانهائي في بُنية "يقظة فينيغن" التي تتمثّل العَود الأبدي، في سردها المكثّف الذي لا يُفضي إلى حقيقة. هنا تماماً يقف أنسيلم كيفر في لا يقينه حول عالم اليوم وماذا ينتظر البشرية وسط كلّ هذه العتمة.