"يا ولاد الأبالسة" لروان حلاوي: أطروحةٌ لزمن قادم

15 سبتمبر 2024
تبدأ من مقدّمة فانتازية هي خروج النساء إلى جهة لا نعرفها
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- المسرح اللبناني يعاني من أزمة اقتصادية تجبره على تقليص عدد الممثلين، لكن مسرحية "يا ولاد الأبالسة" تضم أربعة ممثلين، مما يُعدّ حدثاً نادراً.
- المسرحية تتناول الصراع بين الجنسين من خلال مقدمة فانتازية، حيث يتجادل الرجال حول تاريخ العلاقة بين الجنسين، مما يجعل النص جامعاً بين العمل الثقافي والشعبي.
- النص المسرحي يتميز بحوارية ديناميكية تتطلب مجهوداً كبيراً من الممثلين، مما جعل العرض ناجحاً في ترويض الصعوبات الاقتصادية.

أن تضمّ مسرحيةٌ ما أربعة ممثّلين، حدثٌ في المسرح اللبناني، الذي يضطرّ اليوم إلى الاقتصار على ممثّل واحد، في محاولة لتضييق كلفة العمل، تطاول ليس فقط أجور الممثّلين، بل تُضيف إليها الديكور والنفقات الأُخرى. هكذا نجد أنفسنا أمام فصل في المسرح اللبناني، بداعي الاضطرار بالطبع، لكنّ مخرجاً كهذا وانكفاءات من هذا النوع تُؤثّر ولا بدّ في نمط المسرح، وفي اللعبة نفسها ونصّها.

الإخراج والتأليف لا بُدّ أن يتأثّرا بهذه الضيقة، التي تُغيّر، مع الوقت، في مباني المسرحية وإعدادها وشروط عرضها. لا بدّ أنّ الممثّلين الأربعة بهذا العدد من جديد المسرح اللبناني، وإن كان رجوعاً إلى قديمه، حين لم تكن الأزمة الاقتصادية مهيمنةً على كلّ شيء، بما في ذلك صناعة المسرح.

الممثّل الواحد يُجاري الوضع، ولا عجب أن تكون السياسة عند ذلك هي الموضوع. السياسة، في تناولها المباشر وتفاصيلها القريبة واستمداداتها من الواقع اليومي، تُناسب، أكثر ما يكون، المسرح السياسي الذي تُقدّم له، ليس فقط الوقائع الحاضرة في ذاكرة الناس، بحيث تبدو استعادتُها شراكةً فعلية بين العرض وجمهوره، الذي له ردوده الحاضرة، على كلّ تعليق وكلّ نادرة وكلّ طرفة، أي إنّ الجمهور طرف في اللعبة، وهو هكذا يشارك في إحيائها.

لكنّ مسرحية روان حلاوي ليست من هذا الصنف، ليست بعيدةً عن السياسة، لكن هذه قد تكون، بين الدقيقة والدقيقة، مآلها. ذلك بقدرة السياسة على أن تتربّص بكُلّ شيء، وعلى أن تمتصّ كلّ شيء. لكن "يا ولاد الأبالسة" مع ذلك ليست مسرحية واقعة سياسية أو ظرف سياسي. هي بالعكس تهرب من هذا التصنيف.

ليست مسرحية واقعة سياسية أو ظرف سياسي

يُمكن للسياسة أن تتمثّلَ الصراع الذكوري الأنثوي، لكنّ "يا ولاد الأبالسة" تبدأ من مقدّمة فانتازية هي خروج النساء إلى جهة لا نعرفها، هكذا يتركن الساحة لرجال صاروا وحداناً يتجادلون في هذا الحدث. جدل لا يزال يتقلّب وينفذ إلى نهايات مختلفة. ذلك الجدل يمرّ على تاريخ العلاقة بين الجنسَين، منذ فجر التاريخ وحتى الرواية التوراتية، ثمّ هناك الموضوع البيولوجي، وإلى جانبه العمل النظري على هذه العلاقة، ثمّ إنّ هناك مجالاً واسعاً - ما دمنا في هذه العلاقة - لتوليفات (تعليقات) شعبوية، منها مأثورات وطُرف ونكات، لا نتفاجأ بأن موضوعها في الغالب جنسي.

نحن هكذا أمام تراث شعبي له تاريخه ولغته. أمام نصّ جامع، بين عمل ثقافي من ناحية، وشعبي من ناحية أُخرى. هذا الجدل لا يهيمن فقط على موضوع المسرحية، بل هو في أغلبه كلُّ موضوعها، بحيث يتراءى لنا أنّها، بمقوّماتها وجوانبها ومحطّاتها واستمداداتها، تكاد تكون مبحثاً حوارياً حول مسألة الجنسَين. إنّها، في أغلبها، أطروحة لهذا الموضوع، أو حوارية حوله. بالطبع يحوي هذا الجدل مادته المسرحية، التي تتفاوت وتتبدّل وتتنقّل بين مواقع متصارعة، وتنقلب على نفسها، وتذهب في اتجاهات متعاكسة لا تلبث أن تتبادل الأدوار. 

هذه الحوارية لها ديناميتها الخاصّة، بل هي تُحيل النصّ بطلاً أوّل في العمل. هذا التصدُّر في أحيان يُخلّ باللعبة، ويجعلها أحياناً على وشك أن تضيع في التاريخ والنظرية. مع ذلك يحمل بناء النص مجهوداً لافتاً، ثمّ إنّ العمل كلّه، بهذه الصفة، احتاج بالطبع إلى مجهود مسرحي، استطاع الممثّلون الأربعة القيام به.

الجانب الشعبي كان الأقدر على التماس مع الجمهور، ولعلّ هذا ما جعل طارق تميم الأقدر على التواصل معه. مع ذلك لم يكن الممثّلون الثلاثة الآخرون أقلّ قدرة. لقد نهض الأربعة بهذا النصّ الذي يتحوّل أحياناً الى مباراة ثقافية. نهضوا بالنصّ الذي كان، بحدّ ذاته، عملاً وثائقياً وبحثياً، في حين أنّه استرخى لجانب شعبي جماهيري فيه. هكذا تبدو المسرحية خارجة من صعوبة، استطاعت أن تروّضها، وأن تجد قواماً مناسباً، وعرضاً مناسباً لها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون