ولا يهمّك

03 يناير 2024
طفل فلسطيني ينظر إلى دمار القصف الإسرائيلي، رفح، 29 كانون الأول/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

كُنّا في اللّوح المحفوظ، آنَ زلزلت النكبة، وفرَّ أهلُنا، تحت سقف الرَّصاص، لا يلوون على شيء إلّا النّجاة منه. كُنّا في اللّوح المحفوظ، عندما سوَّت تلك العصابات أكثر من خمسمائة مدينة وبلدة بالأرض، وتم ترحيل ثمانمائة ألفٍ منّا. كُنّا في اللّوح المحفوظ، ولهذا لم نشعر بشيء، ولم نتأثّر بأيّ واغِش أو فالج.

مرّ الوقت بطيئاً، ثقيل الوطأة، داخل خِيام اللّاجئين ومخيّماتهم (بُنيت من حجر مغشوش، قليل الإسمنت)، فخرجنا من اللِّوح المحفوظ إلى أرضِ البشر الغاصبين والمغصوبين، هكذا على البركة، وكيفما اتّفق، فإذا بنا صارخون: "سبحان الله". وليس هذا فحسب، إنما على حين فجأة، نشارف سنّ السابعة من العمر تقريباً، وتحدث كارثة حزيران العظمى، بعد تسعة عشر عاماً من نزيف الجرح الأول، فإذا بالحالمين بالعودة إلى مظانّهم الأولى، يا ولداه، يفتحون عيونهم على عودة من سرقها منهم، وهكذا صاروا أذلّاء مرّتين، في عُمر واحد، بعدما صارت النَّكبة نكبتين.

ثم... على الرَّغم من استقرارنا في المخيّمات آنذاك، وعلى الرَّغم من نفاد صبرنا من نتيجة تلك الحرب قاصمة الظهر، إلّا أنّنا لم نُدرك في حينها، مقدارَ الوقت المكتوب لنا، ومقدار الظلام الذي سيتعيّن علينا تجرُّعه، حتى تسطع شمسٌ في عتمة النفق، بعد مرور ستّة وخمسين عاماً، بطيئة، وثقيلة الوطأة، "هَرمنا" خلالها، حرفياً وفيزيقياً.

شمسٌ ويكون اسمها هذه المرّة: "طوفان الأقصى".

واليوم، حين يتحتّم علينا كتابة آراء على هامش الطوفان، فإنّ الفم لا يُتأتِئ ولا يُغمغم (حتى لو خلا من الأسنان)، فكيف لمخزن البحصات هذا، أن يفعل، وهو مثقلٌ بعار أُمّة، يحملها تحت اللسان، طوّافاً من قارّة شابّة لقارة عجوز، مُبدِّلاً بلداً ببلد، كتبديل حذاء بحذاء؟ لا، طبعاً.

سنكتب، وسنقول إن هذا الطوفان، هذه الحرب بين قوّة الشرّ الصّرف وقوّة التحرُّر من ربقته، هي الوحيدة العادلة أخلاقياً، وسياسياً ووجودياً في المقام الأول، منذ قرن خيّمَ على هذا الإقليم الجغرافي سيِّئ الطالع.

كفّ الفلسطيني قادرة على مُواجهة مخرز الذكاء الاصطناعي
 

سنكتب، وسنقول إن كفّ الفلسطيني، المشتقّ من مادّة الفينيق، قادرة اليوم وغداً، على مُواجهة مخرز الذكاء الاصطناعي، ولو أتاح هذا للعدوِّ الجَبان تحديد مائة موقع يومياً على طول وعرض القطاع، أهدافاً للإبادة.

سنكتب ونقول إن طوفاناً بهذا النوع، كان يجب أن يحدث من أزمنة وحقب، وإنه تأخرّ كثيراً، ولكنه جاء، ولئن تجيء متأخّراً، خيرٌ من ألّا تجيء بالمرّة.

سنكتب ونقول، إنّنا بدمنا ولحمنا البدائيَّين، سنقارعُهم من صفر المسافة، حتى عندما يعتقد آخرون (يتبعون نوعاً من عِلْم الأمور الأخيرة المُروّع)، أنّنا لا نعيش في قوّة الحاضر، هذا الذي سيُمثّل بداية تمرّد الآلات ومحاولات تنظيمها في الوقت المناسب. 

سنكتب ونقول إنّ جدارنا الأخير هو لحمُنا ودمنا البدائيان، مهما لعى أولئك البيض وتابعوهم من بني جِلدتنا السُّمر، ساعين نحو عقولنا، لزرع فكرة الحداثة المُفرِطة الجديدة التي ستُنهي العالَم كما نعرفه. 

إنّ الواقع أبسط من ذلك بكثير، حالما نختصره بكلمة "ولا يهمّك".

"ولا يهمّك" تَميمتُنا التي ورثناها من عزْم الأمّهات الصابرات، وهنَّ يرفعن أياديَهنّ وينفضنها، كنايةً عن أنّ ما ترميه السماء تتلقّاه الأرض.

هذا هو.

* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون