"وكان مساء" لهاينرش بُل.. ما تبقّى لنا

23 يناير 2023
هاينرش بُل، مستعيناً بالعكّاز، في مظاهرة قرب قاعدة عسكرية ألمانية عام 1983 (Getty)
+ الخط -

خمسون عامًا مرّت على "نوبل الأدب" التي نالها الكاتب الألماني هاينرش بُل (1917 - 1985). نالها عديدون ونسيهم الزمن، ولم ينلها كثيرون ممّن نسيتهم الجائزة وأكاديميتها. لذا، فإن كان الزمن هو المحكّ الجوهري للفن، أين يندرج أدب هاينرش بُل حقًا؟
 
للسؤال مشروعيته التي يدركها المترجِم المصري سمير جريس، في مقدّمته للطبعة الجديدة من المختارات القصصية "وكان مساء"، الصادرة عن دارَيْ "سرد" و"ممدوح عدوان". يتّفق جريس مع عموم النقّاد الألمان بأن قصص بُل، لا رواياته، هي ما استحقّت البقاء خلال هذه العقود. قد نتفق وقد نختلف في التقييم، إذ ما زال لبعض رواياته ألق لم ينطفئ تمامًا: "شرف كاتارينا بلوم الضائع"، و"بلياردو الساعة التاسعة والنصف" حتمًا، و"بورتريه جماعي مع سيدة" بدرجة أقل. ولكن حتى القصص - التي نكاد نتّفق كلّنا على قيمتها - ليست على سوية واحدة، أكان هذا في أعماله القصصية الكاملة، أو حتى في المختارات التي ترجمها جريس لنا.

شخصيات هامشية يخلقها بُل من تواريخ وذكريات منمنمة

التفاوت طبيعي في أعمال أي كاتب، بخاصة كتّاب القصة القصيرة. يصدُق هذا على هنري جيمس، وأنطون تشيخوف، وإرنست همنغواي، ولو شون، كما يصدق على الكتّاب "الأدنى مرتبة"، ومنهم بُل. ولكن أعمال هؤلاء "الأدنى مرتبة" أهمّ في الغالب، من ناحية استحضار الذاكرة لها مع تغيّر السياقات. الكتّاب العِظام حاضرون دومًا، غير أن غيرهم يحضر في الوقت الملائم، ولذا هم أهمّ بهذا المعنى، ومنهم بُل، ومختاراته القصصية هذه، في أيامنا هذه. 

الصورة
وكان مساء - القسم الثقافي

وحسنًا فعل المترجم والناشر في إعادة إصدار الكتاب الذي لم تكن طبعته الأولى عام 2004 لتُحدث الصدى ذاته. ما من انتفاضات آنذاك، ولا حروب أهلية، ولا عسكرة تتخلّل تفاصيل الحياة اليومية، ولا مشاريع مجاعات نسميها "أزمات اقتصادية" خجلًا، كما هي اليوم. الناس العاديون، البيادق لو شئتم، هم هم عام 2004 واليوم، غير أنهم اليوم أقرب إلينا لأننا نعرفهم، لأننا تماهينا معهم، لأنهم نحن.

تضم المختارات ست عشرة قصة مرتّبة بحسب تاريخ صدورها، من الأربعينيات إلى الستينيات، وتحتل قصص الخمسينيات القسم الأكبر والأهم. بُل ليس توماس مان أو غونتر غراس أو إريش ماريا ريمارك، ولذا كانت قصص الحرب والقصص الساخرة - على أهميتها - أضعف قصص الكتاب، بينما كان تفرّد بُل في قصص الخمسينيات، حيث التفاصيل الصغيرة التي تختصر الحكايات والأفكار الكبرى، حيث البيادق التي تجسّد الرقعة التي تخلو من القلاع والفيلة والأحصنة وقصور الملوك والوزراء، حيث يُتاح للبيدق الذي أخرسته الحرب ومافيات الاقتصاد أن يتحدّث عن همومه الصغيرة. 

الصورة
هاينريش بُل - القسم الثقافي
بورتريه لـ هاينرش بُل (1917 - 1985)

تفاصيل تبدو نافلة للوهلة الأولى قبل أن ندرك أن النافل هو الجوهري، أن تلك الشخصيات الهامشية هي الحياة، حين يخلقها بُل ويخلق تواريخها المنمنمة، وحين تخلق نفسها لتعيد كتابة تاريخها في أرشيف آخر لا يشبه الأرشيفات الرسمية بإحصاءاتها المرعبة، حين يستحيل الفرد إلى محض رقم.

مجموعة أشبه بخلطة موجعة تمزج التطهّر بالتوق إلى السلام

ألمانيا ليست محض اقتصاد ناهض بعد جحيم هتلر وخصومه الأوروبيين الذين أتمّوا تدمير ما لم يدمّره الفوهرر. ألمانيا بُل هي الجروح الصغيرة، والمدارس القديمة، والزهور العبثية في ركام المدن، وحصى الغش التي ينتهك بها التجار العدالة، والضحكات التي استحالت محض عمل يُؤدّى بعناية على الخشبة قبل أن يلوذ أصحابه إلى "جدية الموت"؛ ألمانيا بُل هي إلزه باسكولايت التي يترنّم أبوها باسمها مذ ماتت، ويسكبها على كلّ من يمر بمتجره الرثّ كي يُعيد إحياءها ولو باللغة؛ هي الكذبات الصغيرة التي تتبادلها الأم وابنها الذي اقتُلع من البيت إلى معسكرات التدريب، هي همسات آنه المتسللة من الظلام بعد أن كاد الصمت يدفن البيت والشوارع والبلاد.

لن يروي هاينرش بُل ظمأنا لو أردنا القراءة عن حروب ألمانيا المتعاقبة، ولن يُقنعنا حين يروي مهزلة عجلة الاقتصاد الطاحنة للبلاد التي تنفض ركام حروبها. نقرأ هذه المختارات القصصية كي نتلمّس الفقد في خلطة موجعة تطهيرية توحّد النزعة السلمية وجدليّة الخطايا والغفران الكاثوليكية التي رسمت لحظات حياة بُل، وسكبها علينا نحن أيضًا كي نرى ما رأى، وندرك ما أدرك، ونتألّم مما تألم. نقرأ قصص بُل كي نحتضن نقصاننا الذي قضمته الأفكار والقيم الكبرى، لندرك بشريّتنا، حيث لا نُعرَّف بما كان ينبغي أن نملك، بل بما تبقّى لنا.   
  

* كاتب ومترجم من سورية

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون