تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع متلقيه. "أودّ لو نُدرك كبشريّة كمْ نحنُ متّصلون ولسنا منفصلين، وأن مصيرنا واحد"، تقول الفنّانة الفلسطينية في حديثها إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلكِ هذه الأيام؟
تشغلني رسالة روحي، أو خِطّة قلبي، وأين أنا منها. تشغلني أيضاً رؤيتي ووجهتي الفنّية؛ مشاريع جديدة وانسجامها مع رسالتي وحياتي التي أريد.
يشغلني اللقاء بين عالم الفن وعالم الوعي، وتطوير الذات والمساهمة في بناء مجتمعات صحّية باستخدام الفنون والمسرح والحكايات. وتشغلني كذلك كيفية إيجاد توازن بين قبّعاتي المهنيّة المتنوّعة والمتقاطعة في آن. مثلاً، إيجاد توازن بين المؤدّية والممثّلة، وبين الناشطة والمدرّبة، بين مساحات الإبداع والعزلة، وبين مساحات التفاعل واللقاء مع الجمهور والناس. كما يشغلني الوعي بمصادر طاقتي وكيفية ترجمة عالمي الداخلي بلغةٍ فنّية أو ببرنامج تدريبي، والمشاركة بما أودّ مشاركته.
■ ما هو آخر عمل صدر لكِ وما هو عملكِ القادم؟
- آخر عمل هو إنتاجٌ ألماني ـ فلسطيني مشترك، في تعاون بين مسرح "بريدج وورك" في برلين و"مسرح القصبة" في رام الله، وهو من إخراج فيلكس بونزهاور. اسم العمل "شلل"، وهو يعالج ثيمة الهويّة، والخوف، والصدمة، بثلاث لغات: العربيّة والإنكليزيّة والألمانية؛ ويعتمد النصّ المسرحي على موادّ شخصيّة وجمعية في آن. بالإضافة الى كوني ممثّلة فيه، فقد كنت شريكة أيضاً في الكتابة، مع باقي الزملاء.
يتولّد إحباط من وعينا بضيق المساحة المتاحة لنا كفنّانين
أمّا بالنسبة إلى عملي القادم، فإنني في المراحل الأخيرة من إنتاج "حكايات حنين"، وهو عرضُ حكايات وأساطير من فلسطين والعالَم، يركّز على نماذج الأنثى المختلفة، والطاقة الأنثوية، والتواصل، والحب، والعلاقات، والأسرار الكونية. هذا العرض يأتي بعد عرضَيْ حكايات قمت بإنتاجهما سابقاً: الأوّل بعنوان "نساء يرقصن مع الذئاب"، والثاني بعنوان "الورد اللي بينهن".
من أجل التحرّر من قالب العرض المسرحي، كان عرض "الورد اللي بينهن" لقاءً ما بين حنين المسرحيّة وحنين الحكواتيّة. أمّا "حكايات حنين" ــ وهو اسم مشروعي كحكواتيّة ــ فلا يقتصر على حكايات معيّنة، إنما يجمع مخزون حكاياتي كلّه؛ كما سيكون مزجاً لحنين الحكواتية (المؤدّية)، ولتلك التي توجّه المجموعات، فيما سيكون الجمهور شريكاً في اختيار الحكايات وتحديد ماهية وتسلسل وطابع العرض. وبذلك يكون العرض خاصّاً بكلّ الجمهور ونتيجةً للحضور والكينونة والطقس في مكان وزمان العرض.
■ هل أنتِ راضية عن إنتاجك ولماذا؟
- راضية وغير راضية. راضية لأنني أشعر بأنني على الطريق الصحيح (أو قريبه منه): لدي وضوح في رؤيتي ووعي بما أودّ تحقيقه من خلال عملي كفنّانة، سواء في العروض أو في التدريبات والحلقات التي أرافقها. هذا تطوّرٌ في رحلة الوعي، ومعرفة ذاتنا، والقوانين الكونية الطاقيّة، والوعي بالأقنعة والمنظمومات المختلفة، وثقافة الانفصال والاتّصال، ومنظومتَيْ الحبّ والخوف، عن طريق المسرح وعن طريق الحكايات ــ ولا سيّما الأساطير. بدأت أتلمّس هذا التطوّر في السنوات الأخيره، حيث صرت أستشعر أثرَ منتوجي وعملي على الآخرين، وهذا يعزّز الشعور بـ"القدرة على التأثير والتغيير" وبدقّة ما أطرحه.
وغير راضية لأنني واعية بأنني لم أستثمر طاقاتي ومخزوني ومعارفي حتّى الآن في اتّجاهٍ دقيق وبنّاء وبشكل تراكميّ. أعتقد أن كلّ فنّان يمرّ بمراحل "إحباط فنّي"، كما أن حياتنا تحتوي أيضاً على مراحل إحباط. يتولّد الإحباط، في أغلب الأحيان، عندما نكون على وعي ودراية تامَّيْن بعدم تناسب المساحات المتاحة لنا كفنّانين، ولقدراتنا وأحلامنا وشغفنا. السنوات الأخيرة، منذ بداية جائحة كورونا وتغيُّر العالَم كلّه، صعّدت تحدّياتنا كفنّانين مستقلّين ووضعتنا أمام أسئلة كبيرة وجديدة، وهذا يخصّ مَن يعملون في مجال الفنون الأدائيّة أكثر ممّن يعملون في السينما والتلفزيون.
أنا في المراحل الأخيرة من إنتاج عملي القادم "حكايات حنين"
لديّ مخزون أفكار لمشاريع فنّية ومجتمعيّة، وهي أفكارٌ تحتاج إلى دعم لتنفيذها؛ إذ إنني، حتى الآن، أقوم بإنتاج عروضي من حسابي الخاصّ وحسْب وقتي المتاح، ما يجعل التنفيذ بطيئاً. عدم الرضا نابع من رغبة في عيش حالة إبداع مستمرّة واستثمار وقتي وطاقتي بإبداعي، وفنّي، وبصمتي المِهَنيّة والفنّية، واللقاء الإنساني والتعبير. باختصار، أعرف ما أحبّ أن أفعل وكيف أفعله بما فيه خيرٌ لي وللمجتمع والعالَم، وغير راضية على "الخطاب التسويقي التقويمي" الذي يحاول إقناعك بوضع طاقتك على صورتك في العالم الافتراضي وعلى أمور لوجسيتية وتسويقية وإنتاجيّة.
■ لو قُيّض لكِ البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟
- سؤالٌ صعب، لأنه يناقض إحدى قناعاتي التي أذكّر نفسي بها دائماً: "ليس هناك اختصاراتُ طُرق في رحلة الوعي". ولكنْ لو بدأتُ من جديد بوعيي الآن، لكان هناك احتمالٌ كبير لأنْ أختار المسار نفسه، بالإضافة إلى الكتابة. هويّتي المِهَنيّة هي نتاجُ تقاطع ثلاث دوائر: الفن والأداء؛ والعمل المجتمعيّ الداعم؛ والعمل الأكاديميّ. أشعر بالانتماء إلى عدّة عوالم، وأرى الكلَّ متّصلاً، لذلك على الغالب كنت سأختار المسار نفسه ولكنْ بشجاعة أكبر في البدء فوراً وعدم إضاعة بوصلتي وتعلّم موضوعِ عِلمي، ولكنّ حكمة "اختصارات الطرق" أعلاه تُربّت على أرواحنا حتّى لا نؤذيها بالندم.
أعتقد ان موضوع الفنون التعبيرية والأداء وعمليّة الخلق هو ما يشدّني: صيرورة خلق وإنتاج ونشر وعيٍ، وفرح، ونور وجمال في الكون. لكنّ هنالك احتمالاً لم أفكّر به إلّا مؤخّراً، حول رغبتي في إحداث تغيير مجتمعي ومن مكان واعٍ: فقد أدركت أنّني لو كنت معلّمة روضة، وعملت مع الأطفال منذ سنّ صغيرة على قيَم مهمّة وبرمجات ذهنية، لكانت لديّ مساحة أكبر لخلق تغيير في العالم في مساحة آمنة وواضحة، للمساهمة في خلق مجتمعات صحّية ومتعاطفة. هذا هو دافعي للعمل كحكواتية للأطفال، بشكل موازٍ لعمل الروضات والمدارس.
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- ما أنتظره وأريده وأسعى إليه في عملي هو أن تكون مجتمعاتنا صحّية، واعية، آمنة، محتويةً ورحيمةً أكثر. أتمنّى أن نتحرّر من منظومة الاستهلاك وأن نعي البرمجات الذهنية غير الصحيّة والتي لا تدعّمنا كمجتمعات وأفراد. أودّ لو نمحو ذهنيّة المقارنة والمنافسة من قاموس كلّ المجتمعات، أن نعي كبالغين ما نمرّره للأطفال عندما ننشئهم على أنّ "نجاح أخي يعني فشلي". هذه البرمجة تجعل تطوّرنا كمجتمع وكإنسانية منقوصاً، وقد زجّتنا في منظومة لا تنتهي مطالِبُها؛ إذ وقع أغلبُنا في فخّ تلبية الصور الكاذبة للنجاح والسعادة وصورتنا الخارجية أمام العالم، ونسينا جوهر حياتنا على هذا الكوكب.
وقع أغلبُنا في فخّ تلبية الصور الكاذبة للنجاح والسعادة
أودّ لو نُدرك كبشريّة كمْ نحنُ متّصلون ولسنا منفصلين، وأن مصيرنا واحد؛ أودّ لو نبدأ في سلوكنا وتصرّفاتنا من منظومة حبّ لا خوف. أحلم بأن يكون كلّ أطفال ونساء العالم، وكلّ مَن يؤمن بالحبّ واللاعنف ويعمل على نشره وتطبيقه، بأمانٍ أكثر ولديهم مساحات أكبر لنشر النور، وألّا تضيع طاقاتهم في كثير من الأحيان (للأسف) على حماية أنفسهم ورسالتهم ودرء أذى قوى الظلام التي تحاول السيطرة على كلّ بصيص نور ومحبّة. أحلم بعالمٍ فيه خوفٌ أقل، أمانٌ أكثر وبالتالي نموّ، وتطوّر، وحبّ أكثر.
■ شخصية من الماضي تودين لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- عشتار لأن لديها سرّ الحياة والموت الذي تتوق إلى معرفته كلّ روح على هذا الكوكب.
■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعودين إليه دائماً؟
- بشكلٍ عام، أعود إلى الكتب التي تُعَدّ مرجعيّة في عالم الحكايات والأساطير، وكذلك إلى نصوص مسرحية كلاسيكية. من أهمّها كتابات جوزيف كامبل، مثل "البطل بألف وجه"، حيث فيه اكتشاف جديد وزاوية جديدة تتعلّق برحلتنا وما راكمناه من تجارب تتجلّى كلّ مرّة عند قراءة مراحل رحلة البطل.
■ ماذا تقرأين الآن؟
- "البطل بألف وجه" لجوزيف كامبل.
■ ماذا تسمعين الآن وهل تقترحين علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- أستمع حالياً إلى موسيقى وترويدات أمازيغيّة تراثيّة.
بطاقة
ممثّلة وحكواتية ومدرّبة وموجّهة مجموعات فلسطينية. حاصلة على إجازة في علوم التغذية وعلى ماجستير في دراسات المسرح والنوع الاجتماعي. مدربّة في مجال مسرح المضطهدين، ومسرح إعادة التمثيل (بلاي باك)، وفنّ الحكي والمحاكاة، ومرافقة مجموعات وحلقات داعمة في مجال تطوير الذات بالاستناد إلى الحكاية الشخصيّة. شاركت في عدّة إنتاجات مسرحية ومشاريع مع مؤسّسات ومسارح مختلفة في فلسطين والعالم، وتتجوّل حالياً بعروضِ حكايات (من إنتاجها) للأطفال وللكبار في فلسطين وخارجها.