وداعاً إلياس خوري.. الرحلة لم تنته والوجع لم يتوقّف

16 سبتمبر 2024
إلياس خوري.. ميلاد في زمن النكبة رحيل في الإبادة
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **إلياس خوري: التجريب والتحديث في الأدب**
إلياس خوري (1948 - 2024) كان روائيًا وقاصًا وناقدًا لبنانيًا، تميزت أعماله بالتجريب والتحديث، مؤمنًا بتعدد الروايات والتفسيرات للتاريخ.

- **القضية الفلسطينية في أعماله**
القضية الفلسطينية كانت محورًا رئيسيًا في أعماله، مثل "باب الشمس" (1998)، حيث استعرض معاناة الشعب الفلسطيني بتداخل الأبعاد السياسية والإنسانية.

- **استكشاف الهوية والانتماء**
اعتمد خوري على تقنية تعدد الأصوات، تناول موضوعات الهوية والانتماء والاحتلال، وقدم رؤى فلسفية وأخلاقية، مما جعله شخصية مؤثرة في الأدب والسياسة.

تظلُّ جملةُ إلياس خوري (1948 - 2024)، الذي رحل عن عالمنا أمس في بيروت: "أنا أخاف تاريخاً لا يملك سوى رواية واحدة. التاريخ له عشرات الروايات المختلفة، أمّا حين يجمد في رواية واحدة، فإنّه لا يقود إلّا إلى الموت"، شديدةَ الدلالة للتعريف بسيرة الروائي والقاصّ والناقد والصحافي اللبناني التي لم تتوقّف عن كونها سيرةً أدبية وإنسانية زاخرة بالتجريب والتحديث الروائي والقصصي والنقدي، بل إنّها تُظهر حالةَ الانهماك في البحث عن معنى التاريخ والحدث، ودلالةُ كلّ منها ماثلةٌ بوضوح في أكثر أعماله الأدبية.

ولعلّ القضية الفلسطينية وهي تأخذ محوراً رئيسياً في العديد من أعماله، التي استعرَض فيها المعاناة التي حلّت بالشعب الفلسطيني ومأزق تشتُّته، من خلال شخصيات وأحداث تتداخل فيها أبعاد سياسية وإنسانية واقعية ومفرطة الخيال في الوقت نفسه، كان من بين ما أعطى أعماله عمقاً أدبياً وتجربة قرائية فريدة.

أتاح له هذا التداخُل استكشاف عوالم نفسية وسياسية وثقافية من خلال الشخصيات والأحداث التي تبدو في بعض الأحيان غير تقليدية، مُعتمداً في كتابته على تقنية تعدُّد الأصوات والتناوُب بين السرد والحوار الداخلي، والتي كثيراً ما لجأ فيها إلى الزمن غير الخطّي، ما عكَس تعقيدات الحياة والذاكرة.

شكّلت القضيةُ الفلسطينية محور العديد من أعماله

يَظهر هذا الأسلوب بوضوح في روايات مثل "يالو" و"باب الشمس"، مع لغةٍ شعرية تُضفي طابعاً جمالياً على السرد. غير أنّ خوري غالباً ما كان يتّكئ على عُمق وجداني للشخصيات والأحداث لمعالجة موضوعات الهوية والانتماء؛ حيث تناول الهوية الفلسطينية واللبنانية في ظلّ الاضطرابات السياسية والاحتلال والنزوح. ومن خلال هذا الطرح، قدّم رؤىً فلسفية وأخلاقية حول معنى الانتماء في عالم مضطرب لا يهدأ.

وتبدو ثيمةُ اللجوء الفلسطيني واسعةً ومستطيلة على أبرز أعماله، بالنظر إلى القصص التي جمعها من مخيّمات اللاجئين على مدار سنوات الاحتلال الطويلة. وقد اعتبر العديدُ من النقّاد روايته "باب الشمس" (1998) أوّلَ عمل ملحمي في السردية الفلسطينية التي اختصَرت الرحلة التي لم تنته والوجع الذي لم يتوقّف.

وقد ارتبطت "باب الشمس" بإحدى التجارب الشبابية المناهِضة للاستعمار الاستيطاني في الأرض الفلسطينية، عندما أطلق ناشطون فلسطينيون هذا الاسم على قريةٍ أنشؤوها عام 2013 على حدود مدينة القدس، قبل أن تهدمها قوّات الاحتلال الإسرائيلي بعد أقلّ من يومَين من بنائها.

تناوَل موضوعات الهوية والانتماء والاحتلال والنزوح

وقصص هذه الرواية، وإن سُردت من وجهة نظر خليل، أحد أبطالها، كُتبت بنُسَخٍ مختلفة للقصّة الواحدة؛ فالراوي يتنقّل ذهاباً وإياباً مع مرور الوقت ، ويتصارع مع عدم استقرار الذاكرة وأسئلة الدافع والهوية، والتي تعكس عدم استقرار الحقيقة على وجهٍ واحد واستحالة القبض على وجه واحد منها.

يقول في إحدى مقابلاته : "لقد اكتشفتُ، لدهشتي، أنّه لم تكن هناك أيُّ تقارير مكتوبة عن الحرب. لم يكن هناك أرشيف للرجوع إليه. لم يكن هناك سوى الهمسات التي قد تسمعها في المنزل: الدروز قتلوا جدّك، والمسيحيون قتلوا عمّك، وما إلى ذلك. بالنسبة لي، هذا الافتقار إلى الماضي المكتوب على وجه التحديد يعني أنّنا كلبنانيّين ليس لدينا حاضر أيضاً. أنا لست مهتمّاً بالذاكرة في حدّ ذاتها، أنا مهتمّ بالحاضر. لكن لكي تحصل على هدية، عليك أن تعرف الأشياء التي يجب أن تنساها والأشياء التي يجب أن تتذكّرها. إنّ افتقارنا إلى التاريخ المكتوب جعلني أشعر أنّني لا أعرف حتى البلد الذي نشأت فيه. ولم أكن أعرف مكاني فيه. لا أعتقد أنّني قمت بأيّ اكتشافات عظيمة كمؤرّخ، ولكن عندما بدأت كتابة الروايات، بعد سنوات قليلة، وجدتُ أنّني أريد أن أكتب الحاضر - حاضر حربنا الأهلية".

في روايته "الوجوه البيضاء" (1981)، التي كتبها في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية، صوّر خوري، بأسلوب صحافي، التدهور الذي أصاب البنية الأساسية في بيروت والتكاليف النفسية التي عاناها سكّانُها، وتناول قضايا نادراً ما تناولتها الرواية العربية في ذلك الوقت؛ مثل حقوق المرأة، والقيود المجتمعية، والدين.

ولم يكتف خوري في روايته بوصف الفظائع، وإنما ذهب أبعد من ذلك: قرأ بعض آثارها ونتائجها على البشر والطبيعة والعلاقات. وإذا كان اللون الأبيض قد استهواه في روايته تلك، فليس لكونه لوناً كاشفاً فقط، وإنما لكونه ضوءاً أيضاً، يُظهر الأشياء على حقيقتها، ويرينا المشهد بكُلّ ما يحفل به من عبث وفجيعة وجنون. لقد فعل إلياس ذلك تاركاً لنا أن نقرأ الظواهر وما وراءها، لكي نفهم ما يجري حولنا، ولئلا نكون أدوات في لعبة لا نملك فيها إلّا الامتثال والتمثيل.

انتمى إلياس خوري - الذي وصف نفسه في إحدى المناسبات بأنّه مناضل - لفترةٍ من الوقت إلى حركة فتح، قبل أن يُغيّر ولاءه إلى الأدب وينهمك ويعيش فيه. وعندما سُئل عن كيفية استقبال "الوجوه البيضاء" التي تُشير إلى بعض الفصائل داخل المنظّمة ، لحظة صدورها لأوّل مرّة، قال إنّ الكتاب سبَّب "مشكلة كبيرة"؛ فبمجرّد صدوره، سحبته "منظّمة التحرير الفلسطينية" من المَتاجر. ولكن بعد عامَين، في أعقاب نشره سلسلة من المقالات عن الغزو الإسرائيلي لبيروت، غيّرت المنظّمة رأيها: "وفي تلك اللحظة أُعيد طباعة الكتاب واعتُبر كتاباً فلسطينياً بامتياز في بيروت".

في عام 2013، ألقى صاحب كتاب "النكبة المستمرة" (2023) كلمةً من بيروت أمام مجموعة من 250 ناشطاً فلسطينياً شاركوا في بناء قرية "باب الشمس"، تيمُّناً بروايته التي تحمل الاسم نفسه، وقال من جملة ما قال يومها: "لن أقول: أتمنّى لو كنت معكم، فأنا معكم... هذه هي فلسطين التي تَصوَّرها يونس في رواية باب الشمس".


* كاتب من فلسطين

المساهمون